خزّان الماء السوري
محي الدين محمد
في المدى المنظور أميل إلى الاعتقاد بأنّ ما أراه اليوم أمامي كمواطن يعيش في الألفية الثالثة ويرغب باختبار ما يجري في زمنه، وقد قرأ في الاتجاهات المتباعدة مواقف الأدباء المهتمين بأوطانهم التي يقيلون فيها تحت أعلامٍ تمثل مساحتها الجغرافية، وتحمل إطلالتها الشاملة فكراً وسلوكاً حيث دلّلت تلك المواقف على الوفاء للثقافة في أبعادها الوطنية والقوميّة، والميراث التاريخي الحامل لمرجعيتها في التفاعل الروحي مع الأفكار حتى الأسطوري، والعلمي منها، وربما إدخال النكتة المثيرة للمشاعر الودية في بعض جوانبها الأخرى.. وتبين لي فيما بعد أن المصالح الاقتصادية بلباسها السياسي الذي تقوده تلك المصالح على اختلاف أصحابها ما تزال هي المحرّض على ما يجري في عالمنا المأزوم.. وإذا كانت المسألة الثقافية بجوهرها تعني الحديث عن ارتفاع بعض الأصوات على المستوى الوطني والقومي في بعده الحضاري، والإنساني المشترك ولا سيّما في المرحلة التي مرّت بها المجتمعات العربية في القرن التاسع عشر، وأوائل العشرين وشهدت تلك الفترة أدباء يسعون إلى التغيّير ويدفعهم إلى ذلك الحرص على مسألة الانتماء الوطني الذي هو امتداد للأصالة بمعطياتها التاريخية دونما استعارة للألوان التي استولدتها العولمات في أرديتها الانعزالية، والابتعاد عن المفاهيم الوطنية الصحيحة ومثّل هؤلاء المثقفون الواقعية فيما يكتبونه فجاءت مواقفهم نديّةً وأفكارهم تدفع إلى الأفعال، وتدعو إلى تجدّد الشخصية والانحياز إلى اللغة التي تلامس الوجدان شعراً ونثراً.. وجندوا اهتماماتهم بإضاءاتٍ دخلوا معها إلى كل الأماكن عبر البنى التعبيرية، والموجودات المرئية التي تشكل علامةً للبلدان التي ينتمون إليها..
وعلى الجانب الآخر فإنّ المتأمل فيما تركه بعض الكتاب العرب ولا سيّما في مصر خلال القرن العشرين من آثار أدبية تدلّل على انتهاجهم أساليب العزلة والتقسيم والجور على الثقافة العربية في التزامها الأصيل بالذوق وسيلان الصوّر المتلاحقة على أجنحة التوافق مع الطقّوس التي ظلت فيها الوحدة أمة مقاومة ضد الغزو الثقافي عبر القرون..
وهذا ما يدفع بالقارئ في أيامنا إلى استخلاص النتائج الهامة المترتبة على المواقف وما ترمي إليه في نهاية المطاف من أخطار سنبقى نلاحقهم فيها ونلقي على من تبقى منهم رداء الخيانة وعلى الموتى نقرأ فاتحة الخلاص.. ويحضرني في هذا السّياق اسم الكاتب المصري لطفي السيّد الذي كتب يقول: “يعوزنا الاعتقاد بأن مصر لن تتقدم إذا كانت تجبن عن الأخذ بنقمتها وتتوكل على أوهام وخيالات يسميها بعضهم الاتحاد العربي”.
لكن هذه المواقف قد دفعت.. بالدكتور طه حسين – ليكتب ردّاً عليها في إحدى مقالاته في “جريدة الشرق” آنذاك لأنها قد أثارت شجونه وهو صاحب كتاب مستقبل الثقافة في مصر – فكتب يقول: “إنّ المصريين قد خضعوا لضروب من البعض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان، وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين”.
لقد دخل الأعراب في الألفية الثالثة البيت اليهودي الذي كان أحد أركانه “كيسنجر وغولدا مائير” اللذان خططا لما يسمى بالمشروع العربي الجديد تحت عنوان (الربيع العربي) منذ عام (1954) وها هم اليوم وقد دفعوا الأموال واستحضروا الإرهابيين من شتى أنحاء المعمورة ليضربوا الخزّان العربي السوري الذي شربت من مائه كل النفوس المخلصة ثقافياً لتراث العرب في حضارتهم عبر الأزمنة.. لقد أدرك مثقفو العالم أنّ الشعب السوري داعم لجيشه المقاوم وسوف تتحول التضحيات التي قدمها العرب السوريون إلى كتب تُدرّس في المدارس والجامعات العالمية اعترافاً بعظمة تلك التضحيات.. وهذا الكاتب الفرنسي (ميشيل رامبو) واحد من الكتاب الفرنسيين الذي أوضح في كتابه (صراع العاصفة على الشرق الأوسط) الذي ترجمته الدكتورة لبانة مشوح بأن الدولة السورية دولة علمانية ذات نظام ديمقراطي – وتعيش فيها كل الطوائف منسجمة ومخلصة لوطنها.. ويختم في القول: بأن السّاسة الغربيين ومنهم هولاند – وساركوزي – وأوباما لم يمتلكوا فهماً لتاريخ السوريين أو لعلهم يتجاهلون ذلك.. وأمريكا انتصرت بحد السيف قبل أربعمئة سنة وسوف تهزم متمزقة الولايات جراء التمييز العنصري، والفقر الذي يعيش تحت سقفه الكثيرون. أما وقد استيقظت أجيال الخريطة المقدّسة لتقرأ في كتاب سورية الجديد حيث انتصرت المقاومة وهزمت ثقافة الانعزال والتقسيم الرّادفة للإرهاب الوهابي، بقي خزان الماء السوري نقيّاً رغم كل المحاولات التي تود تعكير أمواهه…