ثقافة

قراءة في العرض المسرحي “غاندي”

انتهى منذ أيام العرض المسرحي المونودرامي (غاندي) بطولة وتأليف وإخراج الفنان القدير زيناتي قدسية والذي قدم على خشبة مسرح الحمراء في دمشق، ونجح العرض في نقلنا إلى أجواء الهند من خلال الموسيقى التصويرية المتقنة واستطاع الفنان قدسية بأدائه التمثيلي المتمكن أن يجعل فضاء خشبة المسرح ملؤه غاندي الذي حضر أمامنا وبيننا عابراً لنوافذ قلوبنا وعقولنا، لكن إذا استثنينا مقولات غاندي الشهيرة وسيرته الذاتية نجد أن قدسية لم يضف شيئاً يستحق الذكر (ككاتب) على صعيد ماسمعناه.. حيث بدأت المسرحية بظهور غاندي وحديثه عن مسيرته واغتياله بصيغة الماضي وكأنه روح تطفو الآن وتروي ما عاشته حين كانت في جسدها، إلا أنه لم يتطرق إلى الأحداث المعاصرة واكتفى بمحاولة حملنا إلى مسيرته في الماضي.. وظهر غاندي أضعف من ذي قبل.. متعلقاً بشكل بارز بالماورائي والميتافيزيقي (الله) وقد وقع قدسية في السرد وأجهض الطابع المسرحي للعرض عدة مرات عندما بات يتحدث عن غاندي رغم أنه ليس من الضروري سرد سيرة حياة غاندي النضالية الثرية برمتها كي تصلنا تلك الشخصية.. وفن (الحكواتي) ليس ذاته فن المسرح.. بالإضافة إلى أن الصراع لم يكن عميقاً وهو شرط أساسي لقيام فن المسرح، وفي عروض “المونودراما” التي تقوم على الممثل الواحد يكون الصراع بأن تنقسم الشخصية على نفسها وتتصارع لإعادة تشكيل محاور في بنيتها السيكولوجية، بينما كانت العديد من مشاهد المسرحية فيض مشاعر إزاء ما شهده غاندي من أحداث عالمية كتقسيم الهند مثلاً.. فلم يخض قدسية في العمق الفكري للشخصية، حتى لو أعاد غاندي النظر في مبدأ اللاعنف الذي كان يتبناه في مسيرته النضالية فهذه مسألة بديهية.. ولم نشهد تحولات في الشخصية كما في عروض المونودراما الرائدة، بقدر ماشاركنا غاندي مشاعرهُ التي يمكن لأيٍّ كان أن يتوقعها إزاء مجريات الأحداث في العالم، مما جعل العرض دون المتوقع من مثقف يحمل سيرة مهنية كالتي يحملها زيناتي قدسية، ومع الأسف ظهر غاندي كشخصية تتمتع بقوة الألفاظ والكلام وليس بقوة الفعل والنضال كما كانت حقيقةً.. ورغم أن غاندي من الشخصيات التي تمارس التأمل إلا أن العرض كان من أقل العروض المسرحية التي تتضمن لحظات صمت التي شاهدتها، وقيل على لسان غاندي عبارات لا يمكن تصورها على لسان شخصية مثل تلك الشخصية حيث باهى بنفسه قائلاً: (أنا بركان وأنا كذا وكذا.. الخ) ومن الأمور المتوقعة من عرض يحمل عنوان (غاندي) والتي أعطاها قدسية حقها هي مسألة الإسقاط الناجح على واقعنا المعاش، حيث الولايات المتحدة الأمريكية باتت تسعى للهيمنة مكان بريطانيا، وحيث وقع أسياد الخليج فيما وقع فيه الشريف حسين في الماضي من دعم للقوى الإمبريالية المنافقة والتي تضرهم ولن تنفعهم، وكيف سعت تلك القوى الاستعمارية إلى تقسيم الهند متبعة الفتنة بجِّل أشكالها، وكيف تسعى لتحقيق ذات الشيء في سورية. وقد ذكرنا زيناتي بما قاله غاندي حول ادعاءات اليهود بحقوقٍ لهم في فلسطين فتجلى لنا غاندي إنساناً بما يفوق زمانه ومكانه وفارساً من فرسان الحق المدافع عن المظلومين أينما وجدوا.
وجاءت مشاهد البكاء والنواح طويلة نسبة إلى مُدة العرض مما أفقدها الاتصال بوجدان المتلقي.. وظهر غاندي دون حول ولا قوة وقد طغت إرادة الإمبريالية العالمية والقوى الاستعمارية الإجرامية فجاءت نهاية المسرحية تشاؤمية وكأن نضال الأخيار بلا جدوى وانتصارات الأشرار حتمية.. وكاد العرض أن يكون مبعث للطاقة السلبية ومشاعر الإحباط للجمهور في وقت لسنا نحتاج فيه كسوريين إلى الإحباط لولا أن قدسية أنقذ العرض في مشهدٍ في الختام جاء عبر شاشة عرض عملاقة ظهر فيه غاندي (زيناتي) رافعاً يده في وجه الجور العالمي الاستعماري في حركة معبرة جداً ووفق حركة كاميرا بارعة فبدت يده ، أكثر من يد، بدت سداً وقمة هرم جبار يقف في وجه المعتدين.
سامر منصور