ثقافة

“الثقافة قمر لا يغيب”.. في عالم د. نجاح العطار

لأنَّ الكلمة (سيدة الكون, ومنها البدء فعلاً, والبدء حكاية, منها التكوين, وما قصَّه علينا من أسطورة الخلق, وهي الكلمة, حمامة زاجلةٌ, في منقارها غصن الزيتون, بشارة لمن في الفلك, وفي جناحها بياض الثلج, في نصاعته البكر, حين حلّقت عالياً, حاملة رسالة المحبة والسلام). ص7
ولأن الكلمة هكذا, نجد مؤلفة كتاب (الثقافة قمر لا يغيب) د. نجاح العطار تضع هذه الكلمة في المكان المقدّس من وطنها, أكان في دواخلها الرحيبة, والزاخرة بثقافة فيها تمازج الماضي مع الحاضر, والشرق مع الغرب, أم في أولويات سلَّم الحياة, لا سيما وأنها باكراً قبضت بروحها, ومعرفتها, على رمزية, وقوة, وفاعلية, هذه الكلمة, مثقفةً, ومسؤولةً ثقافيةً, وسياسيةً لها مسيرتها في تاريخ وطنها.

وإذ أتوقف عند مسؤوليتها الثقافية والسياسية أنظر إلى كنوز مكتبتي الصغيرة, وفيها ما فيها من عطاء الإبداع البشري, فأجد أنَّ عدداً جيداً هو ما اكتنزته من وزارة الثقافة السورية حين كانت د. العطار, هي من يحاول هيكلة تلك الوزارة, بحيث رفدتنا بأروع ما أعطاه العقل البشري من فكر وأدب, تعانقت فيه عطاءات الشرق الإنسانية العظيمة, مع عطاءات الغرب الرافدة للإنسانية, بكل أبعاد هذه الكلمة, وليس هذا فقط, بل إني أتذكر, وأنا ممن عايش هذه المرحلة الهامة من تاريخ قطرنا, كيف أسست لتواصل قوي, قدر ما كان مستطاعاً, بين ساحة العالم الخارجي, السابق لنا كثيراً في مجال أدب الطفل, وبيننا ككتاب للأطفال, من خلال إيجاد الأدب السوري للأطفال في ساحة ثقافة الشرق والغرب, أكان عن طريق المشاركة في معارض الكتب العالمية والعربية, أم عن طريق المسابقات, التي أتذكر أن أدب الطفل السوري وجد مساحة له جيدة على تلك الساحة.
ولعل هذا الفعل من التجسير بين الثقافات المتنوعة شرقاً وغرباً, نابع من نشأة المؤلفة, التي جذّرت فيها ثقافتها العربية, وتراثنا العربي بقوة, ثم تواصلها عن طريق الدراسة والحياة مع الثقافات اللاحقة لتراثنا وحضارتنا, فظلت وفية لكليهما نتاجاً ثقافياً, وفعلاً مسؤولاً, لا يبتعد عن خطٍ هو ما يناسبنا في قضايانا, وخطنا السياسي الوطني، وهو ما يتأكد لنا ونحن نقرأ كتابها (الثقافة قمر لا يغيب), وهو مجموعة من النصوص, كتبتها المؤلفة (في ظروف دولية مختلفة, كانت الأوضاع لا توحي آنذاك بحجم المؤامرة التي استحكمت في أيامنا هذه, حاملة معها هواجس الاحتلال الذي هيمن في النصف الأول من القرن الماضي على بلداننا).
ليس عن عبثٍ أن تختار المؤلفة أوّل نصٍّ يدور حول ندوة للسياسة الثقافية في جامعة هارفر, الأمريكية الشهيرة عام 1966 إذ (يبدو أنَّ الهدف الرئيس للندوة هو التعريف الدعائي بالحياة الأمريكية, بمناحيها المختلفة, الفكرية, والاجتماعية, والاقتصادية, والدفاع عن السياسة الخارجية الأمريكية, وتبريرها, في فيتنام خاصة. ولقد كانت هذه الندوة بمجموعها ثمينة, كشفت لنا جوانب من قضايا ذات شأنٍ, في طليعتها قضية اليهود.) ص19
والتالي في الندوة يرتبط بالسابق عند الدكتورة, وعن قصد, بخيط يراه القارئ وهو يتعمق في النص, بين ذاك الزمن والنموذج الأمريكي, بما له من علاقة باليهود, والزمن الحاضر وما تعنيه أمريكا غير مفصولة عن اليهود, وعن سياسة لها لم تتغير, رغم مرور أكثر من نصف قرن.. وطبعاً من زاوية أخرى, يتضح لنا وعي المؤلفة للقضايا الهامة, والمحورية, بالنسبة لنا, وكيف نظرت إليها منذ ذلك الزمن, ومدى التزامها بها: (لقد أحاطوا بنا هناك, كما سبق أن أشرت, وكنا حيثما اتفق وتلفّتنا, وجدنا بيننا يهوداً, أو مجموعة يهود يتحدثون عن الإنسانية والاتجاه الإنساني, وحين كان يعرض موضوع إسرائيل- وكثيراً ما كان يُعرض- يسقط القناع, ويبرز وجه صهيوني في ثياب مواطنٍ أمريكي, ويتخذ النقاش طابعاً حاداً جاداً يضعون فيه ثقلهم كله في سبيل الدفاع عن وجود إسرائيل.) ص20 إذن, وبشكل واضح, نجد تركيزاً على ذاك الرابط, الذي كان وما يزال, بين القضايا الثقافية, والسياسية, التي تريد أمريكا أن تفرضها على العالم أو الأصح وكما فهمت مما وراء السطور, التي يريد اليهود الذين سيطروا على أمريكا, أن يفرضوها على العالم, ليفرضوا بالتالي إسرائيل التي تمثلهم, وتمثل المتصهينين في كل العالم..
في كل سطر من الحديث عن الندوة, فكرة سياسية لها عمقها في تاريخ العلاقة الأمريكية معنا, لا سيما الآن بالذات, لذلك تجسدت الحياة السياسية, وممارسة السياسة عند المؤلفة واضحة, إنما بأسلوب أدبي أبعد النص وأمثاله من النصوص عن أسلوب الخطابة السياسية المباشرة, والمملة بالنسبة للقارئ, الذي أَطلَعَته على ما نكرره دائماً سراً وعلانية بالنسبة لتقصيرنا, وما يجب أن نفعله اتجاه قضايانا, بينما عدونا فاعل وباجتهاد ودأب على الساحة العالمية, ليحقق ما يصبو إليه, وهو ليس من حقه, وهذا ما نراه بوضوح الآن.
في هذا النص وغيره من النصوص التي تطرح أفكاراً سياسية تعرض المؤلفة ما يمكن أن يشكل كتاباً سياسياً هاماً على صعيد صراعنا منذ أكثر من نصف قرن, مع عدو ندرك خطره تماماً ماضياً وحاضراً, ومع صديق أدركنا كم كانت بوصلة السياسة في وطننا صائبة حين أقمنا علاقة التحالف والشراكة والتبادل الثقافي والسياسي معه.
وإذ تتحدث المؤلفة من خلال نصوص عن السياسة تتحدث من خلال نصوص أيضاً عن قضايا هامة في الثقافة ترتبط بقوة بتلك الحركة السياسية كما في نص (التراث ذاكرة المستقبل) الذي ألقته في الكويت عام 2007, ملقية الضوء على أهمية الحفاظ على التراث كأساس للحداثة وعلى دور الكويت آنذاك في هذا المجال, وربما أرادت د. نجاح أن تعيدنا إلى دور الكويت الثقافي, في مرحلة من تاريخنا القريب, حين كانت الكويت منارة للخليج أولاً, وللعالم العربي ثانياً, وناهضة بالفكر, تماماً كما كانت لبنان كتلة موازية لها في بلاد الشام أولاً والعالم العربي ثانياً, ولهذا رأينا ما فعلوه عبر السياسة الصهيونية بكليتهما, لضرب ثقافة المنطقة بكاملها عبر الغزو الثقافي السياسي الذي حدث. وإن كان طغى النفس الثقافي للمؤلفة إلا أنه ارتكز على أساسٍ سياسي أعطى هذا النص وأمثاله بعداً موغلاً في أبعاد قضايانا.
أما المحور الهام الآخر الذي نجده في عدة نصوص أيضاً, فهو الموضوع القومي الذي احتل مساحة هامة على صفحات الكتاب. تقول المؤلفة بعد قصة هامة ترويها في الصفحة 57 (قال الحكيم: عمّر بيتاً كالأرض, فالإعصار يكتسح كل الكائنات إلا الأرض التي قامت عليها, ولتواجه الكائنات الإعصار يجب أن تمد جذورها عميقاً في الأرض, فإذا كان الأساس قوياً أصبح البناء قوياً لا تدمره الأعاصير, بقي دوحة, الجذور في القاع والغصن في الأعالي, لذلك بقيت الأشجار وبقي الإنسان, الأولى واقفة تموت, والآخر واقف يناضل) ومن هذه الحكاية تنتقل إلى القومية, وإلينا نحن العرب, أصحاب الحضارة, ومن نزلت بهم لفظة اقرأ, (فكان وجودنا العربي لساناً, وكان بياناً, وقد احتفظت أمتنا بكيانها, واحتفظت قوميتنا العربية بمقوماتها, لأنهما عرفتا كيف تحافظان على اللغة والثقافة) ص57 عام1980.
وإذْ تكرر المؤلفة الحديث في نصوصها عن التراث والحداثة, فهذا لما ولَّدَاهُ من تصارع, هو طبيعي, على ساحة الثقافة, وهو ما تنقله لنا من قول لهيغل يلخص مجمل هذا الصراع: (بنياننا الثقافي متكامل تكاملاً تاريخياً).
أما المحور الآخر الذي تمحورت حوله عدة نصوص فهو الطفولة. كنص (لقاء على اسم المستقبل) ونص (الدور الكبير للعملية الثقافية في بناء الإنسان) في مؤتمر وزراء الثقافة العرب في الجزائر عام 1983- وما على العرب أن يفعلوه والمحاور التي عليهم إيجادها, ومن ثم التأسيس عليها: فالتخطيط الشامل للثقافة العربية, والموسوعة العربية, والمكتبة القومية المركزية, والخطة القومية للترجمة… الخ والكثير الذي لم نصل إليه حتّى الآن, وينطلق من هذه المحاور, ليؤسس لثقافة عربية تبني الإنسان العربي, بحيث يقف صامداً أمام أي غزو ثقافي, لا سيما الغزو الثقافي الصهيوني, ضماناً للأمن العربي. وللأسف كل هذا لم نجده, بل وجدنا الآن حرباً اعتمدت على ثغراتنا في تدمير مجتمعاتنا وقبل كل شيء تدمير إنساننا العربي.
محور آخر هام طرحته المؤلفة عبر بعض النصوص التي ألقيت في مؤتمرات شاركت فيها, وهو محور العلاقة مع دول أمريكا اللاتينية, ودول الاتحاد السوفيتي سابقاً.
(أستطيع أن أؤكد أن ثقافة أمريكا اللاتينية معروفة جداً لدينا, وخاصة ثقافتها في القرنين التاسع عشر, والعشرين, وهي موضع اعتبار كبير لنا, وتقدير فائق, وأن التفاعل بين ثقافة العالمين, العربي والأمريكي اللاتيني, قد تجذر, وأعطى تأثيراته الرائعة في أدبهما كليهما, ولدينا جملة من المشاكل الراهنة هي نفسها في أمريكا اللاتينية ودولنا, لذلك يمكن الإفادة من تجارب بعضنا. إن كنز الذهب ينفد, وكنز الماس ينفد, لكنَّ كنز الثقافة يزداد, فهو الكنز الذي بدأ منذ الأزل, وسيدوم إلى الأبد, وأشعته كأشعة الشمس لا يعتريها نقصان, بل إن الشمس تنقص والقمر ينقص, أما الثقافة فوحدها تكبر وتكبر إلى ما لا نهاية) ص146.
وهكذا, ولأهمية الثقافة, ولأنها هي ما ينفع الناس فتمكث في الأرض، وتمكث في ذهن مؤلفة النصوص منارة في كل مرتحل تحمل إليه ما في جعبتها من هذا الزاد العظيم الذي لا يفنى وإن فني حامله الخالد في الأذهان، نتوقف عند سطور من نص (موسكو أكبر من عاصمة) وآخر (علاقة إستراتيجية وليست مرحلة عابرة) ولا يسعنا أن نقول ونحن نقرأ هذين النصين إلا ما أشبه اليوم بالأمس, هذا الأمس الذي يتعمّد اليوم بدم الشهداء من بلدينا. وقد ربطت أواصر الإنسانية بين الثقافة والسياسة, كما ربطت أواصر المصير المشترك الآن (فالثقافة التي ربطتنا بعمقها وحرارتها ذات يوم بالاتحاد السوفييتي هي نفسها التي تربطنا اليوم بالإتحاد الروسي, ولا فرق.) ص231 عام 1987
يطول الحديث عن الكتاب كثيراً ليأخذ مئات الصفحات إذا توقفنا عند كل نص وربطناه بكل جزيئاته بحاضرنا, لكنها مقالة تختصر كثيراً, فنوجز القول: الكتاب رحلة في تاريخ ممتد في الزمان والمكان لقلمٍ واحدٍ رصد آلاف الأقلام, فيه عبق الثقافة المحمول من الوطن (سوريا) إلى كل مكان حطت فيه المؤلفة الرحال, لتزيد وتستزيد منها, وهي المرأة, السياسية, المثقفة, الممثلة لوطنها في ساحة الثقافة العالمية, تاركة من عبق ثقافة وطنها الكثير, وموضحة لتطلعات شعبها ما يجب أن يصل إلى الجهات الأربع للأرض, التي تعرف أن القادمة إليها تحمل شعلة وطنها العظيم سورية, المنارة التي أضاءت متلألئة عالماً رحيباً لا ينس أنها بلد الأبجدية الأولى في تاريخ الإنسانية، لذلك فإن ما تسلسل من نصوص مخطوطة على مراحل من تاريخ حركة المؤلفة, وتاريخ الوطن, إنما له موقع هام في عالم الثقافة, لأنه يؤرخ لحركة وطن كان دائماً يبحث له عن المساحة اللائقة به في تاريخ البشرية, ويؤرخ لمؤلفة جهدت على مدى سنيّ عمرها كي تأخذ لها مكاناً يليق بعظمة هذا الوطن, متسلحة بلغته التي صاغت حروفها بعمق ثقافتها العربية الموسومة بميسمها الخاص بها, وأفكارها المنضدة بعمق تجربتها الحياتية الزاخرة.
مريم خيربك