ثقافة

وضاح رجب باشا يحلل “الفانتازيا الفنية” في أغنية الغيرة لأم كلثوم

بلغ أحمد رامي أعلى درجات الغيرة في الحب حينما غار على أم كلثوم من جماليات الطبيعة ساعة الغروب في القصيدة التي نظمها بعنوان: “الغيرة”، ليتمكن السنباطي من التصدي لتلحين هذه القصيدة الصعبة التي وصفها الباحث وضاح رجب باشا “بالفانتازيا الفنية”، واتصفت بالتعابير البلاغية، ودقة الوصف، وكثرة المترادفات، والصور، ورقة المعاني، والتي برأي الباحث وصلت فيها أم كلثوم إلى قمة درجات التطريب، وحققت بتفريداتها إعجازاً، لاسيما بمفردتي “يا ليتنا وليتنا”، وقد عرض الباحث مقتطفات من المقابلة التي أجراها الشاعر أحمد رامي قبل افتتاح الستار، وظهور أم كلثوم على مسرح حديقة الأزبكية في القاهرة، وتحدث فيها عن القصيدة التي نظمها في الاسكندرية، وتخيّل محبوبته تنظر إلى جماليات المشهد الطبيعي، فشعر بنار الغيرة تشتعل في قلبه، إضافة إلى عرض بعض الصور التي توثق تلك المرحلة بين السنباطي، وأحمد رامي، وأم كلثوم في عام 1957، وكما ذكر الباحث فإن هذه الأغنية لم تأخذ حقها من النقاد رغم إبداع السنباطي باعتماده على مداخل المقاطع على الفالت والامتدادات.

الكثير من التساؤلات انتابت الحضور عن ماهية هذا الحب الكبير الذي حمله رامي لأم كلثوم، والذي اختلف النقاد بتفسير رفضها الزواج منه، هل أرادت الاحتفاظ بهذا الحب الذي فجّرت مكنوناته إبداعات شعرية كانت عاملاً بقوتها واستمراريتها، أم أنها لم تكن تشعر تجاهه بأية مشاعر خاصة؟!.. ليخلص الباحث إلى تساؤل أيضاً بأنه لو قدر الله وتزوجته أم كلثوم، هل يبوح بمفردات العشق التي وصلت إلينا وبقيت لغزاً؟!.

مقدمة طربية بحتة

قسمت القصيدة إلى أربعة مقاطع، تتكرر فيها الافتتاحية بالبيت الأول: “أغار من نسمة الجنوب على محياك يا حبيبي”.

ليتابع رامي تتالي الصور من الشمس في الضحى إلى الغروب، إلى الطير، إلى الزهر، إلى الجدول، وكان اللحن الأساسي للقصيدة على مقام الرصد، المقام الأول بالتطريب، ونجح السنباطي في توظيف تفريعات المقام ذاته باللحن، لكن النقطة الأولى التي توقف عندها الباحث هي انتقالات السنباطي ببراعة تدهش السامعين من مقام الرصد إلى البيات، إلى الهزام وتفريعاته، وعاد إلى تحليل المقدمة الموسيقية التي سبقت المقطع الأول:

“أغار من نسمة الجنوب /على محياك يا حبيبي/ وأحسد الشمس في ضحاها/ وأحسد الشمس في الغروب”.

وبرأيه كانت طربية بحتة، والجمل الموسيقية أُشبعت بالمقام.

وسلّم السنباطي اللحن لأم كلثوم بأغلظ درجات السلم الموسيقي بصوت ثخين رخيم، بالبداية بمفردة “أغار”، ومن ثم الاستمرارية بدرجة دو–الرصد، وفي مواضع تأخذ جواب الرصد، وجواب جواب الرصد، لتغني أم كلثوم بأبعاد أوكتافين، وتصل إلى أعلى درجة صوتية خاصة في تنغيمات تلحين جملتين مترابطتين بالمدّ “على محياك يا حبيبي”، وأخذت الزمن الكافي للغناء ببراعة مذهلة بتلحين المدّ الكبير “على محياك”، ومن ثم المدّ الأقصر.

في المقطع الثاني قدم السنباطي شيئاً جديداً بالدخول بالمقام”بالفالت”، والتسليم للغناء دون وزن، وبرأي الباحث هو أول ملحن عربي يستخدم الفالت في الدخول إلى المقاطع الأربعة بلا إيقاع: “يا ليتني منظر بديع تطيل لي نظرة الرقيب”، لتصل إلى الجملة الطربية الشديدة: “وليتني طائر شهي يشدو بأنغام عندليب”، لينتقل بهدوء إلى مقام البيات: “وتعشق الطير حين يشدو على ذرا فرعه الرطيب”، ليعود البيت الأول: “أغار عليك من نسمة الجنوب”، بجملة موسيقية جديدة.

تقاسيم القانون

ومهد السنباطي، كما أوضح الباحث في المقطع الثالث، بتقاسيم القانون، لتبدأ أم كلثوم بالتفريد ليدخل مقام الهزام، ويستغرب الباحث من قدرة السنباطي على تلحين هذه المترادفات البلاغية التي وصلت إلى أعلى درجات الجمالية بالوصف، وبإشراك الحبيب:

“يا ليتني زهرة تساقت مع الندى على قبلة الحبيب”.

وبدأ التأثير الجمالي بالتفريد في مفردة “يا ليتني”، ومن ثم بدأ بالفالت مع استخدام قليل للإيقاع، في: “وليتني جدول تهاوى ما بين زهر وبين طيب”.

ويرى الباحث أنه في المقطع الأخير وصلت أم كلثوم إلى درجة الإعجاز في تفريداتها الطويلة لمفردتي: “يا ليتنا وليتنا” بتجانس، وبامتدادات أعلى طبقة حادة، وتبعتها بالآهات، بأسلوب غنائي يشبه “يا ليل”، وتوقف الباحث عند نقطة تفردها، ومنع الفرقة من العزف لدخولها حالة السلطنة بتكرار التفريد الذي استمر زمناً طويلاً:

“يا ليتنا طائران نلهو/ بالروض في سرحه الخصيب/ وليتنا زهرتان نهفو/ على شذا جدول لعوب”.

على مقام الهزام وتفريعاته، واعتمد على الإيقاع السريع وليس على الوحدة الموسيقية، لتخفض أم كلثوم درجة الصوت، وتعود إلى اللحن الأساسي مع الفرقة الذي يتضح أكثر بـ: “إذا سرت ساعة المغيب”، إلى: “وأنني من هيام قلبي وشدة الوجد واللهيب”، لتنتهي بـ: “يا حبيبي”.

ونوّه الباحث إلى استخدام الفرقة آلة الرق في الإيقاع، وليس الطبلة، وستبقى هذه القصيدة المغناة ظاهرة طربية نادرة، جمعت بين العمالقة الثلاثة، وأشركت الطبيعة والموسيقا بأرق معاني الحب، والغيرة التي عبّرت عنها قصيدة غنية ببلاغتها.

ملده شويكاني