ثقافة

عام على رحيل التنويري جورج طرابيشي

في آخر مقال له اعتبر جورج طرابيشي أن محطات محددة في حياته كانت بمثابة الانطلاقة المتجددة لما قدمه من كتابات وترجمات على امتداد سنوات طويلة، فكانت أبحاثا ومقالات قاربت الخمسمائة بحث، ومؤلفات تجاوزت الثلاثين مؤلفاً بينما زادت الترجمات التي قام بها على المئة كتاب، كل تلك المحطات وضعها في النهاية في كفة واحدة لتقابلها في الأخرى محطة ذات أثر كبير، هي محطة التوقف أو الشلل التام عن الكتابة، والتي عنى بها “مرحلة الألم السوري المتواصل” حيث لم يسعفه القلم سوى تقديم مقالين اثنين تناول بهما الفوضى التي مر بها العالم العربي ولا يزال، الأول حول ما سمي بالربيع العربي في تونس وليبيا، والثاني حينما بات الربيع المشؤوم على أعتاب التراب السوري، عندما انخرط البعض في تلك “المعمعة” كما أسماها.

الدمار الهولاكي
في مقاله الأول أعرب عن خيبته إذ ما كان مآل تلك التحركات وذلك الربيع إلا الانضواء تحت لواء الأيديولوجيات الدينية والتي ذهبت به إلى مستنقع الدماء؛ فالربيع العربي “لم يفتح من أبواب سوى أبواب الجحيم والردة إلى ما قبل الحداثة المأمولة والغرق من جديد في مستنقع القرون الوسطى”.
في مقاله الثاني يعترف وحين كانت سورية بطوائفها وأديانها وإثنياتها المتعددة؛ تقف على أبواب ذلك الجحيم، لم يكن يعي عندما واتاه بعض التفاؤل، أنه تفاؤل في غير مكانه “لم أكن أعي في حينه دور العامل الخارجي؛ إعلاماً وتمويلاً وتسليحاً، وهو الدور الذي يدفع اليوم الشعب السوري بجميع طوائفه ثمنه دماً وموتاً ودماراً غير مسبوق إلّا هولاكياً”.
من بين تلك المحطات التي رسمت مسار حياته كانت مرحلة التحولات في التدين، من خلال حادثتين تعرض لهما على مقاعد الدراسة أولاها مع كاهن المدرسة حيث يتولى درس التعليم الديني، وثانيها حينما أصر على حضور درس الديانة الإسلامية  والاثنين أوصلاه إلى أن “مهمة كبيرة تنتظرنا في مجتمعاتنا؛ وأن القضية ليست قضية تغيير سياسي، بل هي أولاً وأخيراً قضية تغيير على صعيد العقليات”.
ثم يأتي على المحطة الهامة التي ألهمه فيها قراءة مقال لعالم النفس سيجموند فرويد يتعلق بظاهرة نفسية حول العلاقة مع الآباء، دفعه إلى التركيز والاهتمام بدراسات وأبحاث العالم “عكفت على قراءة فرويد، ثم شرعت أترجم له، ووجدتني أتصالح مع أبي وأصفّي حسابي مع نفسي تجاهه، وأستعيد نسبة كبيرة من الهدوء النفسي”.

هو والجابري
بينما كانت المحطة الأوسع والتي امتدت على مرحلة زمنية كبيرة أنجز خلالها مشروعه الأضخم، الذي عمل عليه ما يزيد على 20 عاماً، فكان موسوعياً حمل عنوان “نقد نقد العقل العربي” تناول فيه بالتحليل والبرهان؛ مشروع المفكر المغربي “محمد عابد الجابري” وأتى متضمناً قراءاته ومراجعاته للتراث العالمي؛ اليوناني منه والأوروبي الفلسفي، وبالأخص التراث الإسلامي؛ مراجعات يعترف أنه كان للجابري الفضل في أن دفعه إليها بعد اطلاعه على ما بات من المسلمات بالنسبة للقارئ العربي، حين قال برفض إخوان الصفا للفلسفة ووقوفهم ضدها وضد المنطق”.
يحكي جورج طرايشي عن سعيه للحصول على الرسائل التي هي مؤلفات إخوان الصفا، خلال تواجده في إحدى دول الخليج العربي، وكيف حصل عليها بشق النفس إذ هي ممنوعة في أغلب دول الخليج العربي إن لم يكن جميعها، حيث عمل على تدقيق الأجزاء التي وصل إليها حتى وصل إلى الشاهد الذي يقول: “إنّ من عرف أحكام الدّين فإنّ نظره في علم الفلسفة لا يضرّه بل يزيده فـــي علم الدّين تحققاً وفي فهم المعاني استبصاراً” ثمّ يضيف: “المنطق ميزان الفلسفة وأداة الفيلسوف. ولمّا كـانت الفلسفة أشرف الصنائع على البشرية بعد النّبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصحّ المــــوازين وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات ونسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات مثل صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ”.
قول أصاب الطرابيشي بطعنة هو الذي قال عن كتاب الجـابري “هذا الكتاب من يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”، “ومنذ ذلك اليوم لم أعد أوجّه لومــــــي إلى الجــــــابري، بل إلى نفسي، لأنّني حكمت على كتاب في موضوع لم أكن أملك كلّ مفاتيحه المعرفية، وأقسمت بينـــي وبين نفســــي أني بعد الآن لن أقول شيئاً أو أصدر حكماً بدون أن أكون مستوثقاً من كلّ المعلومات بصدده. وهكذا أخذت قراري بإعادة تربية نفسي، وإعادة تثقيف نفسي”.
من المواضيع الهامة التي تناولها أيضاً “العلمانية” التي رأى أنها “لم تأتنا من الغرب كما نُتهم وكما يتهمونها بأنها كلمة عميلة للغرب؛ بل جزء واضح من تراثنا، يشرح في واحد من حواراته في العام 2010 معنى العلماني بالنسبة لابن المقفع المصري القبطي، إذ هو من ليس راهباً، أي ليس رجل دين” ليصل إلى أن “العلمانية بذرة برسم الزرع؛ ونحن في عالمنا العربي والإسلامي بحاجة إلى عملية تربية شاملة للعلمانية تنطلق من المدرسة الابتدائية وصولاً إلى إقرارها في الدساتير لتكون شاملة، إن عملية العلمنة يجب أن تكون شاملة، غير أنها لا يجب أن تكون معادية للتدين الذي يبقى أمراً شخصياً”.

عام على الرحيل
طرابيشي الذي ولد في حلب في العام 1939، وحصل على الليسانس في اللغة العربية ثم درجة الماجستير في التربية من جامعة دمشق، عمل مديراً لإذاعة دمشق، وفي بيروت تولى رئاسة تحرير مجلة “دراسات عربية” كما عمل محرراً رئيسياً لمجلة “الوحدة” أثناء إقامته فيها، ليرحل بعد ذلك إلى فرنسا متفرغاً للكتابة والتأليف.
ترجم أعمالاً لكبار المفكرين والفلاسفة العالميين “هيجل وفرويد وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار” إضافة إلى الموسوعات الفلسفية، من مؤلفاته في الفكر والفلسفة والنقد الأدبي “الماركسية و”المسألة القومية” و”رمزية المرأة في الرواية العربية” ومذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة” و”مصائر الفلسفة”، وكما الكثيرين من أبناء جيله انخرط في العمل النضالي السياسي، وواكب العديد من الأحداث المفصلية التي مر بها عالمنا العربي كان أشدها وطأة عليه عدا ما نمر به اليوم، هي النكسة التي كان لها أن تضعه أمام نفسه وتدفعه إلى العديد من المراجعات الحياتية والفكرية؛ تلك التي وصلت به أن يكون أحد أهم رواد التنوير العربي، الذي مرت ذكرى وفاته في السادس عشر من آذار.
بشرى الحكيم