ثقافة

السطو على الأصول وعباءة “المؤامرة”

اشتغلت العديد من الثقافات العالمية ماضياً -ومازالت- على تأكيد دور محليتها الشديدة الخصوصية، في بناء وعي ووجدان العالم ككل، معتبرة أنها بما ساهمت فيه من أدب وفن وفلسفة وعلوم.. إلخ، يعود له عظيم الدور في نهضة عالمية قامت أساساً على تجميع “موزاييك”، عموم هذه الثقافات المحلية لذاك البلد، أو تلك المملكة، وها هي تتحكم بالعالم كل حسب طبيعة ثقافته وفلسفتها الخاصة التي أوجدها لها مفكروها وفلاسفتها المخلصون!.

أمم عدة، اعتمدت في تشكيل وجدانها الفكري والثقافي واللغوي وحتى الحياتي اليومي، على مؤصّلي ثقافتها وحضارتها، تلك التي تباهي بهم وكأنهم أنتجوا من العدم حقلاً معرفياً فلسفياً وثقافياً خاصاً بهم، وصار مرجعاً من مراجع كيانها الفكري دون العودة إلى الأصول التي استقى منها هؤلاء العباقرة مساراتهم الإبداعية، ولو حتى بداعي الشكر والعرفان!.

وليست فكرة تغييب هذه الأصول وحقيقتها، كما اتضح سابقاً ولاحقاً، إلّا لمزيد من الإمعان في طمس دور “أمة العرب”، ولسان الضاد الذي وحّدهم، ونَسبها إلى آخرين، هم في الحقيقة من يحملون صفة “العدو التاريخي”، ومن يرى، ويدرك عمق ما يحدث اليوم في المنطقة العربية عموماً، سيدرك أن الهدف هو القضاء تماماً على هذه الأمة الأهم، والأعرق، والأشد قدرة على النمو والتطور، بل والريادة، فيما لو أنها تُركت دون حرب إبادة مخفية ومعلنة، شُنت، وتُشن عليها، وفي كل النواحي الحياتية ومختلف أنواعها وأشكالها، ليس بدءاً باللغة، والإرث الثقافي، ولا انتهاء بنوع الطعام والملبس! وهذا مازال يحدث حتى اللحظة، كأن يقوم الكيان الصهيوني مثلاً بالتعامل مع أنواع “الأكلات” الفلسطينية الخاصة بالفلسطينيين وتاريخهم وإرثهم، وكأنها أطباق طعامه التاريخية الخاصة به، والتي تدل على ثقافته “الأصيلة”، فقام بالسطو عليها، ووضع لها تاريخاً مزوراً وحكاية مفبركة، في كتبه وإعلاناته وأغانيه وأفلامه وحكاياته حتى الشعبية البسيطة منها، وعمل على بثها في الداخل والخارج مقدّماً لها حكاية نشوء تاريخية صحيحة من حيث الأحداث التاريخية ومكانها، والكذبة الوحيدة في الموضوع هي الأصل، أصل هذه الأنواع من الطعام، كذلك فعلوا مع الأزياء الفلكلورية الشعبية الفلسطينية، التي صارت ترتديها مضيفات الطيران في إحدى شركات الطيران العائدة للصهاينة!.

أيضاً عندما يقوم الأمريكيون بإطلاق أسماء أدوات الأمة التي أبادها “الهنود الحمر” على منتجاتهم، مثل “التوما هوك” -وهو اسم أطلقه الهنود الحمر على الفأس التي كانوا يستخدمونها في حياتهم اليومية- أو “الهمر” المطرقة، وهكذا يصبح لهذه المنتجات عمق تاريخي وبعد ثقافي، هو أساساً مسروق من ثقافة أناس تمّ القضاء عليهم، والاستيلاء على ثقافتهم وإرثهم الحضاري والإنساني والفكري، شكلاً ومضموناً.

لكن الشأن الأكثر خطورة، هو ما تم العمل عليه ماضياً – كما يُعمل عليه حاضراً- لسرقة ملامح هذه الأمة وهويتها الفكرية والعلمية والفلسفية العميقة، حيث أننا سنجد وفي نظرة متمعنة إلى التاريخ العالمي ككل، مع التنحية الآنية لفكرة “التناص” الحديثة العهد بالاكتشاف نسبياً، رغم وجودها بين النصوص حتى التي تعود إلى حقب غابرة، سنكتشف أن العديد من المفكرين الذين ساهموا بفاعلية كبيرة بتكوين وجدان أمتهم  الثقافي وبيادر معارفها “الاستيطيقيّة”، لم يكن ليتم هذا الأمر، لولا الاتكاء المنهجي على جذع الإنتاج الفكري والعلمي لمفكرين وفلاسفة وعلماء عرب! كان لهم قصب السبق، في تحديد الملامح العامة للثقافات الغربية، من خلال تطرقهم لمواضيع شديدة الخصوصية بقدر ما هي شديدة التنوع، وجد فيها المفكر الغربي الخارج من عباءة محاكم التفتيش ومحارقها، والحروب الدامية التي سبقتها أيضاً، ضالته المنشودة في صياغة مشروعه التعصبي لأمته (لاحظوا الحضور الوثيق لنظرية ابن خلدون في نشوء الأمم ودور المنظّرين فيها لهذا النشوء)، ولعل من أبلغ ملامح هذا التأثر المباشر إن لم نقل النقل شبه الحرفي، الأثر الواضح مثلاً “لرسالة الغفران” لمؤلفها “أبو  العلاء المعري” العربي السوري، التي اعتمدها منتج الثقافة الإيطالية “دانتي” في كتابه الشهير “الكوميديا الإلهية” كمرجع أثيري في تبيان الخطوط العريضة لحضارة أمته المتشعبة الهوية أصلاً، من حيث اعتمادها على الأسطورة والخرافات التي لا تصنع ثقافة أمة بأي حال من الأحوال.

لكن في الوقت الذي تدرس فيه أعمال “دانتي” وعظيم فضله في العديد من الجامعات العالمية، حتى في بعض العربية منها، سنجد أنه يغيب الاعتراف ولو بجزء بسيط من فضل “المعري” على معلمهم وفكره الذي أنتجه بناء على نظريات فنية، وأدبية، وفلسفية أيضاً أنتجها غيره، وهكذا وبكل بساطة يصبح “جحيم دانتي” هو الحجة، بينما يخفت ذكر “رسالة الغفران” للدرجة التي لا تذكر فيها حتى في المراجع التي أرشفت لنتاج الأديب الايطالي الشهير.

ما سبق ذكره ليس بالأمر الجديد الخوض فيه، فقد قام العديد من المثقفين والكتّاب، والمفكرين، والشعراء، والفلاسفة العرب، بالتنبيه إلى خطورته، وكارثية مآلاته، ليس منذ قصيدة “البحتري” الشهيرة “إيوان كسرى” فقط، وبالتأكيد لن تكون نهايتها هذا المقال، وليس بالأمر الجديد أيضاً حقيقة أننا كعرب سنصبح في خطر وجودي حقيقي لا هوادة فيه إن بقيت أحوالنا على ما هي عليه من فرقة، وشتات، واقتتال مدمر يبيد طاقاتنا، وشبابنا، وعلومنا، وبلداننا، وحضاراتنا، وما حدث ماضياً ويحدث الآن، شئتم أم لم تشاؤوا، أعجبكم أم لم يعجبكم، وجدتموه خشبياً تقليدياً كلاسيكياً مملاً، أم وجدتموه العكس، هو برمته لم ولن يخرج إلا من عباءة “المؤامرة”، ومن لديه قول وتفسير آخر غير كونها “مؤامرة” فليفدنا به أو ليصمت في هذه المرحلة التي لا تحتمل المواربة وأفعال “التقرش” الفكري التي للأسف بات يتقنها المثقف العربي، وكأنها هبته الوحيدة، واسألوا “عزمي بشارة” فيلسوف الغبرة عن هذا، باعتباره من الذين عرفوا الحق ونكروه أو باعوه لا فرق، فهو لن يكذب في هذا، حتى وهو يظن واهماً أنه يفعل العكس!.

تمّام علي بركات