ثقافة

مثقفو البوتكس

لم يكن أوسكار وايلد على خطأ حين نبّه من عواقب عدم إضحاك الناس عندما نتكلم عن الحقيقة.. وكانت نصيحته بجمل.
وفي الثقافة “الطبحبشية” المتوالدة، تقول: “كان أبو علقمة من المتقعرين في اللغة، وكان يستخدم في حديثه غريب الألفاظ.. وفي أحد الأيام قال لخادمه: أصقعت العتاريف..؟
فأراد الخادمُ أنْ يلّقنه درساً، فقال له كلمة ليس لها معنى وهي: زيقيلم ..!
فتعجّب أبو علقمة، وقال لخادمه: يا غلام، ما زيقيلم هذه..؟
فقال الخادم: وأنت، ما صقعت العتاريف هذه؟
فقال أبو علقمة: معناها: أصاحت الديكة؟
فقال له خادمه: وزيقيلم معناها: لمْ تَصِحْ ..!
مابين العلقمة وصحوتنا ثمة هوة، أساسها مركون خلف قضبان الاتهام.. فحديث “المحاججة” صعب، وكيف لا.. وأنت أمام أشخاص امتهنوا القولبة والتسطيح..!
تعوم رؤوس أقلامهم فوق سطوح الورق، ويتباهون بأسماك القرش.. فلنتخيّل المشهد..!
يدورون حول نضارة الشدو لحين انقضاض وتهشيم..!
فكلما سمعوا كلمة حق، تحسّسوا مسدسات حقدهم ورسموا دوائر الاستهداف بأسهم من غيّ.
هي لحظات موتورة بلا شك، ألبسوها ثوباً فضفاضاً، وكان اصطكاك هيكلها العظمي بمنجله البرّاق لا يشي إلا بخراب قادم.
صخبٌ وفقاعات تملأ حيز المكان والأزقة المواربة، حيث يتبختر فيها المنقضّون على اللحظة يحملهم سواد الإيحاء سراً إلى المناطحة والمقارعة في حلبة صار فيها الدماغ قفازاً.  فمتى نكون في ساحة دون شطب أو تحوير.. أو نسف من تحت الحزام..؟
قهقهة صفراء وصدى أعور.. يطشّ عن مساحات الرؤية والرؤيا نقاء الحاجة..!
هم ارتهنوا طوعاً لمقولة “الميكافيلية” التي تركت الفواجع وصور التناحر ملقاة على قارعة الفوضى.
اهدؤوا قليلاً يا مدّعي الثقافة، لا تلبسوا أردية التخفي.. ولا تزركشوا أحاديثكم بالاستناد والأقاويل البالية.. فثمة محاكم آتية، قضاتها من العارفين ببواطن الأمور.. فربما تستيقظون وظلالكم بلا اتكاء.. كغصن مهجور مكسور.
أنت..من أنت؟
سؤال يعتصر نفسه، يلقي عباءة الحبر على زيف ووجه أصفر..أهو الامتداد الافتراضي.. أم التصاق بالقناع؟
الحمل كبير.. وطريق سيزيف ملتبس.. والعقاب كما الحبل على الجرار.
يتبجحون بعلو كعب انتقاء المفردات. ونحن ندري أنّ الانتهازية واقتناص المفردات ما هي سوى التفاف وتحايل.. هؤلاء هم حَمَلة رايات بلا جغرافية.
ويسأل بعضنا لما نحن هنا..؟
مفترق كلام أم سهم آيل إلى الانكسار..؟
سأدعوكم إلى وليمة (ليست لأعشاب البحر) بل إلى وليمة لا طاغية فيها إلا للتعقل في رحلة التتابع.. احملوا الأقلام وأعطوها بلا منيّة.
كلما اختصرنا البيانَ ورتبنا سطورَ الكلام للغاية الفضلى، أثقلنا حشوهم المبالغ.. فالكلام الداشر يعلّم أصحاب الاقتناص سرقة الأضواء.. فلا شك أنّ انحناء السطور وألم مفاصلها هو حقيقة موثقة.
ونقول: ربما هو عناد، وربما هوسُ التيمّن..!
يجاهرون بـ”النرسيسية” المبللة حباً بالتعصب..
أصوات الخسائر تعلو، فلا الأعمدة صمدت.. ولا خواتيمهم نجحت، طالما كان النقاء لهم بالمرصاد.
الحل ليس هنا ولا هناك، فالذي جاء عنوة، لا يعرف معنى النهار..
هكذا يقسمون السؤال على مراحل دون جواب، فتفقد الثقافة حلقات الوصل.
رويدك رويدك، المخاض عسير، وأنت لا تعرف إلى أين تسير.. سنضع اللوم على الـ(نحن).. فكلما سمعت المرايا بنا، تكسّرت أضلاعها.. فلا معين ولا طبيب..!
تجاعيد الواقع الراهن لن ينفعه “البوتكس” ولا شدّ وجه. فالحقيقة تنزّ قهراً في زمن بات بالمقلوب.
غريب هذا القلم.. وغريب أيضاً من يمتلك مفاتيح بلا أبواب..!
يبيعون الثقافة بالأوزان، وقد تخطوا ذلك ببيع الإهداء..!
غريب.. غريب.. فالغراب الذي ألبسوه ثوباً أبيضَ.. مازال نعيقه أسود.

رائد خليل