ثقافة

أدونيس الموقف

أمينة عباس

ربما كان من الإيجابيات النادرة للحروب والأزمات والنكبات التي تمر بها الشعوب والأمم والدول قدرتها على فرز الجيد من الرديء والصالح من الطالح من المواقف والأفكار والآراء والأشخاص، فالحروب وسيلة لجلاء المواقف والكشف عن خبايا النفوس ومستويات الوعي عند البشر بمختلف ألوانهم وأهوائهم.
والواقع أنه قبل اندلاع الحرب على سورية قبل ست سنوات كان ثمة رموز على صعيد الأدب والفكر من الصعب محاورتها نقدياً أو تحليلياً بل وحتى مقاربتها إنسانياً، فكانت تعيش في برجها العاجيّ ناسجة حولها هالة من العظَمة، بل والقدسية ما يجعل أفكارها وآراءها التي تطرحها فوق مستوى النقاش والجدال.
وبنفس الوقت كانت ثمة رموز منزوية وصامتة، تقدم ما عندها من أدب أو فكر دون ضجيج إعلامي، فإذا تقاطع المتلقي مع منتوجها الإبداعي والفكري ابتهجت وإذا انفضّ عن هذا المنتوج عزت ذلك إلى اختلاف الرؤى والأذواق، متقبّلة كل شكل من أشكال النقاش والنقد مهما قسا أو تطاول، محافظة في الوقت نفسه على نقائها الإنساني انتماءً وموقفاً.. وربما كان النموذج الفكري والإنساني والإبداعي الذي قدمه أدونيس الشاعر والمفكر السوري خير مثال على ما يمكن أن يبديه المبدع من موقف عندما يتعرض موطنه لهجمة بشعة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، وقد كلّفه هذا الموقف الواعي والمدرِك لخفايا الأمور الكثير من حملات التشهير التي جاء معظمها للأسف على حدٍ سواء من زملائه المجايلين أو ممن قصروا عنه عمراً وتجربةً، فكان ردّه غالباً الصمت والازدراء لكل من حَسِبَ أن الغوغائية وركوب الموجات القطيعية ستزيد من جماهيريته وشعبيته، في الوقت الذي تعرّوا فيه أمام الجميع، وأمام أنفسهم بالدرجة الأولى دون أن يجدوا من يقدم لهم ورقة توت.
وها هو أدونيس مجدداً في ظهور تلفزيوني حديث له يؤكد مواقفه الإنسانية بالدرجة الأولى والوطنية بالدرجة الثانية، وعلى الرغم من أن مستضيفه بذل كل ما يملك من جهد لاستدراجه لاتخاذ مواقف مخزية تجاه بلده، إلا أنه بقي ذاك المفكر المبدع الصلب الذي لم يفكر باللحظة الراهنة وبالمكاسب التي يمكن أن يحصدها جراء مواقفه وفي المقدمة منها ترشيحه للجوائز العالمية، بل فكر بالمستقبل وموقف الأجيال الواعية من تراثه الفكري والحضاري، وكان من اللافت بالفعل إصرار محدّثه على جرّه إلى اتخاذ مواقف معادية لبعض دول المنطقة على أسس طائفية، إلا أن أدونيس أصر في الحوار على أن إسرائيل تبقى هي عدو الأمة وسبب مشاكلها وكوارثها.
أدونيس صوت سوري قد يختلف معه الكثيرون أدباً وإبداعاً باعتباره أبرز رموز الحداثة في الشعر العربي، لكن فكره الوضاء يبقى منارة تهتدي بها الأجيال الواعية والمدركة لما يدور حولها.