ثقافة

ولو بعد حين!

في ميادين الحياة المتشّعبة، كثير من الشوائب، والعثرات، والعكارة، التي تشوّه مشاهد الجمال، وتفسد التمتّع به، وتغيّب معانيه، وتُقلق الضارعَ إلى ألفة وسلام وأمان..

ولا يتوقّف الأمر على أوقات الأزمات والحروب، التي تستشري فيها الفظاعات، وتتفشّى الموبقات، وتتفاقم الشذوذات إلى درجات حرجة؛ بل حتّى في الظروف العاديّة، يبقى للشرور وأصحابها، والأذيّات وقاصديها، حضورٌ وتأثير ومناسبات.. ومعلوم أنّ ذرة غبار واحدة، تُدمع العين، وتشوّش الرؤيا، فتضيع ملامح العناصر في ما يراه الناظر، وتغيب التفاصيل، بما كانت تشكّله من جمال وانسجام؛كما أنّ كائناً جرثوميّاً أو فيروسيّاً، لا يكاد يُرى بالأجهزة الدقيقة، يثير الأوجاع، ويشغل المرء عن كلّ ما يبهج، أو يمتع، ويبعد عمّا يستطيب من طعام أو شراب؛فما بالك بفعل كائن بشريّ (عاقل)، كامل الهيئة والأوصاف، وآثار هذا الفعل على أبناء جلدته؟!

لا شكّ في أنّ الشخص الذي يسمع عبارة ناشزة، ويتعرّض لتصرّف فظّ،ويرى سلوكاً شائناً، أو يسمع بواقعة شنيعة، سيتعكّر مزاجه، وتضيق فسحات العيش لديه، وتتقلقل أوقاته، وسيبتعد عنه الإحساس بالراحة، حتّى لو تنقّل في المكان، وابتعد عن السكّان؛ فاحتمال حدوث ذلك وارد، في أيّ مكان مأهول. وتختلف درجة التأثّر بحدّة الفعل، والفاعلين، وحساسية المتلقّي، والحاضرين، والمناسبة، والمستهدف، والظروف المحيطة، وعوامل أخرى.

ومن الطبيعيّ، أنّ التخلّص من كلّ ذلك غير ممكن، والتغاضي عنه، يجعله يتراكم، ويستشري، وأنّ للقدرة على التحمّل والمقاومة مستويات وحالات،تتعلّق بحصانة المرء الناتجة عن الثقة بالنفس، والقدرة على تفهّم الحالة أو تقديرها بلا مبالغة ولا إسفاف، وضبط الانفعالات، والرصيد المعرفيّ بالحياة، وأحوال الناس، وطبائعهم، وسلوكاتهم.. وكلّما زادت هذه الحصانة لدى البشر في المكان والدائرة، كانت المنعكسات السلبيّة أقلّ.

ويجب ألّا يتوقّف الأمر عند المقابلة السلبيّة وعليها؛ بل لا بدّ من أن تتحوّل المواجهة إلى فعاليّة وأداء ومبادرات للتنديد بالحالة الشاذّة، وتفنيدها، وتوعية المتلقّين إلى أضرارها، والتواصل مع الفاعلين عن طريق الردود المقنعة والحوار الجادّ.. والنتيجة هنا أيضاً تتعلّق بمكانة المتدخّلين المحاورين وقدرتهم على إظهار أشكال الخلل ومواطنه، وأساليبهم في ذلك، وإمكانيّة إحلال الحال المغايرة بشكل سلمي وإنسانيّ.

ومن الضارّ أن تميّع القضيّة، وتسخّف المسألة إلى درجة الضحك مع الفاعلين، أو محاولة الإضحاك منهم؛ لأنّ ذلك قد يجعلهم يتمادون، وينتشون، ويحسّون بالأمان، ويتجرّؤون أكثر، وينتقلون بآرائهم وطرائقهم هذه إلى قطاعات أخرى. ومنهم من يقوم بذلك قصد الاختبار؛ ليرى من الذي سيؤيّد، ومن يتجاهل، ومن ينكتم، ويجبن، ومن الذي سيعترض، وما هي درجة المواجهة؟! وبناء على ذلك يختار الجمهورَ المناسبَ لبثّ ما يريد، وبالطريقة التي يبتغيها. ومن الممكن أن يكون ذلك بدافع غرائزيّ طبائعيّ، أو قد يكون مقصوداً للانتقام من أحد أو جماعة، في الناس العاديّين، أو في مستويات المسؤوليّة.. وقد يكون الأمر مطلوباً من شخص أو فريق، ووراء ذلك جهات وغايات قريبة وبعيدة..

ومن الضروريّ قراءة هذه الوقائع بما تستحقّ، والتعامل معها كما ينبغي. ولن يكون ذلك إلّا بالثقافة، التي تبثّ الوعي، وتستنهض جذوع المقاومة وفروعها وعناصرها، وتؤتي أُكلَها، ولو بعد حين.. من دون أن ننسى أنّ هناك ما يتطلّب تدخّلاً حاسماً؛ حيث الوقائع لا تسمح بالانتظار، والمنعكسات لا تحتمل التأجيل.

ولا بدّ من أن تُستجمع القوى الإيجابيّة الفاعلة، وتُحشد الإمكانيّات المتوافرة والممكنة، وتحفّز الطاقات الحيويّة الظاهرة والكامنة، مع السعي الدائم إلى تجميعها خاصّة وعامّةّ؛ ولا سيّما في الظروف الكارثيّة، كالتي تمرّ بها بلادنا؛ حيث الخسائر كبيرة في الأنفس والخصال والمواد، ويحتاج الأمر إلى جدّيّة وحماسة وخبرة ومعرفة؛ لإعادة بناء عناصر المقاومة وأشكالها، أو استحضارها وتدعيمها وتحصينها.. ولن يكون ذلك بالأساليب، ولا بالأدوات، ولا بالرؤى وآليّة التفكير والتعامل والفعل وردّ الفعل؛ تلك التي كانت قبل الأزمة،وليس منطقيّاً ولا مقبولاً، أن يقوم بالمطلوب، من كان مدبّراً لها، فاعلاً فيها، شريكاً، أو مسهِماً في حدوثها، أو مروّجاً، ومسهّلاً لأيّ من فصولها، ولا سيّما من المسؤولين، ولا يمكن أن يتولّى أمر دراسة ما كان، وتقويمه ومعالجته، مَنْ ما يزال يؤمن بالأفكار والعقائد ذاتها، ويقتنع بأنه لم يكن، ولن يكون، بالإمكان أفضل ممّا كان!

غسّان كامل ونّوس