ثقافة

العصـــــــا السحريــــــــــة

في الصف الرابع الابتدائي، وقع في حب معلمته، حتى جافاه النوم وصار لا يطيق صبرا على الليل لينجلي، حتى يحين موعد الذهاب إلى المدرسة، منتظرا إطلالتها الصباحية بكل مافي روحه وجسده الغض حينها من شغف، كان اسمها “مها” لطيفة وحنونة وكان يشعر أنه عندما يسمع صوتها يدلف الصيف ثم يضع في يده تفاحة حمراء لامعة، رغم المطر الذي يصفع نوافذ الصف، وعليه راحت تظهر علامات غريبة، يشرد كثيرا، ويحب الانعزال، إلا من بضعة أوراق وقلم، يحملهما في يديه ويعتني بهما وكأنهما ولديه!.

لأجلها حفظ أبيات شعر كثيرة تذكر اسمها، ونشيدا مدرسيا لطيفا، يرد فيه اسمها الذي كان يلفظه بخجل شديد كلما اضطر إلى لفظه، خصوصا عندما كانت ترسله إلى الإدارة ليجلب بعض الطبشور، “الآنسة مها تريد طبشوراً” قالها دفعة واحدة وكأنه شعر أن أمره افتضح ثم صمت.

إلا أن هذا الحب السرمدي “فرط” بعد أول “عصا” تلقتها راحة يده من يدها، التي حلم ليال طويلة بأنها تمسك أصابعه ويمضيان معاً إلى غروب بديع كما في الحكايات.

وبعد أن كان الصف هو عالمه الأكثر روعة ودعة، صار ذات الصف ضيقا على مشاعره الكسيرة الخاطر، بعد أن فرط “حبه” وخفّ منسوب مشاركته في الدروس، التي كان يجتهد لتبقى يده مرفوعة عند أي سؤال يصدر منها، حتى أنه مرض وتغيب لأسبوع ربما عن المدرسة بسبب الحمى التي اعتلت جبهته وشغاف قلبه،  كان يعاني تباريح الهوى والخيانة التي جاءته على شكل “عصا” بعد أن تجرأ وكتب لها رسالة شرح لها فيها حالته التي باتت لا تطاق، والتي صار بسببها يسهر ويستمع إلى أغان تدغدغ وجدانه، وبأنه يتمنى أن يمشي معها عند الغروب على الشاطئ القريب من المدرسة، مرفقة بوردة قطفها من على سور قريب، وكان جوابها على رسالته التي وضعها فوق طاولتها وبرفقتها وردة”عصا” واحدة فقط، قضت فيها على كل هذا الحب، الذي كاد يتفجر كينابيع في صدره.

حينها كان يوم السبت، هو أول أيام الأسبوع الدراسي، الذي كان يبدأ به وينتهي يوم الخميس، وفي مساء الجمعة كانت الآنسة “مها” تجلس مع والدته في الصالون، وأخبره أخاه أن ثمة من ينتظره ليسلم عليه، إلا أنه لم يخطر في باله أبدا ولا حتى في أقصى تخيلاته، أن يحدث ما حدث، فعندما اقترب من مكان تواجدها وأمه، وصله صوتها العذب وكاد يكسر قلبه ليقفز خارجه، جف ريقه وصارت قدماه ترتجفان، وبعد أن دخل بقدرة ربانية، ألقى السلام “مرحبا آنسة”، “أهلا حبيبي” قامت وسلمت عليه بكل حنان، وظل واقفا يحدق في قدميه، حيث يقبع قلبه الآن تماما.

طلبت المعلمة إلى والدته أن تتركهما وحدهما لبعض الوقت، غيرت طريقة جلستها، بعد أن طلبت إليه أن يجلس قربها، فهي تريده في موضوع خاص، لم تخبر به أحدا، ملمحة بذاك إلى أنها لم تخبر والدته بما جرى. نظرت إليه بحنان لا يستطيع وصف عذوبته، واعتذرت عن العصا التي صفعته بها على راحته، كان كلامها يتدفق برقة أعادت نبضات قلبه لتكرج كما لو أنها “طابة جنية” بين يديها.

لم تأت على أي موضوع يتعلق بالدراسة وراحت تحدثه عن طفولتها وحلمها بأن تصبح معلمة، وعن كونها سعيدة بكون طلابها يحبونها وهو بطبيعة الحال مثلهم “بس أنت مكترها شوي”، شكرته على شجاعته وصراحته ،الصفتان اللتان أخبرته بأنهما فعلا من صفات الرجال الحقيقيين.

قالت له أن عليه أن يصير شاعرا ليفوز بقلبها، فخطيبها أيضا يقرض الشعر، وسوف تجد أيّ منهما قصيدته أجمل، ليفوز برفقتها في ذاك المشوار الذاهب نحو غروب رومانسي لا أحد يعرف وهجه الناريّ غير يده.

ومن تلك اللحظة لم يقع على كتاب عن الشعر، إلا وقرأه حتى لو لم يفهم منه أي حرف، وقتها لم يكن للتلفزيون سطوته على العائلة، فثمة ساعات قليلة يعمل التلفاز فيها، خصوصا في وقت المدرسة، الفتى ذهب نحو مجموعة أوراق بيضاء في يوم العطلة، وقام بقصها بعناية بالغة، لتكون الوريقات بحجم بعضها تقريبا، ثم وبواسطة إبرة خياطة “الملاحف”، التي استغربت والدته طلبه لها، قام بخياطة واحدة من حواف الأوراق البيضاء بخيط أزرق، الأوراق التي جمعها وكأنها دفتر وصارت عالما بأكمله، رسم على الصفحة الأولى بعض الرسومات الرمزية، وكتب بخط واضح وعريض، اسمه الشخصي، مسبوقا بصفة “الشاعر”.

كثيرة هي الشتاءات التي مرت بعد تلك الحكاية القديمة، ذهبت أزمنة وغابت أيام كثيرة في نهر الحياة، بعد أن صار من المغمورين فيه، لكنه وفي اليوم الذي جاء فيه توقيع ديوانه الشعري الأول، وحبيبته تقف قربه، بينما رفاقه يرفعون نخب صديقهم الشاعر، تذكر ذاك الوجه الذي كان ينظر إليه وهو يتحسس راحته وكأنها تلقت تلك الصفعة اللطيفة الآن لا منذ أكثر من ثلاثين عاما!، وتذكر ما وعدته به إن أعجبها شعره أكثر من شعر خطيبها، فإنهما سيذهبان برفقة بعضهما نحو الغروب، بينما يده في يدها، ضحك لتلك الذكرى، التي جعلته في اليوم التالي يعود إلى مدرسته القديمة وفي يده كتابا، أغلب الأساتذة الذين سألهم عنها لم يعرفوها، أما المرأة التي تقيم وأسرتها في غرفة مخصصة لحارس المدرسة، أخبرته أنها تزوجت وبعد فترة من زواجها تركت سلك التدريس، أخذ الإذن من مديرة المدرسة، التي وقف أمامها كطالب،-للحظة كان ربما سيؤدي التحية التي كان يؤديها الطلاب تقديرا لمعلميهم في المدرسة، أستأذنها أن يهدي كتابه الشعري إلى المدرسة، وأن يقبلوه بتواضع في مكتبتها، بعد أن كتب على صفحته الأولى فوق توقيعه: “إلى صاحبة العصا السحرية، هذا الكتاب”.

تمّام علي بركات