بين المجتمع وغوار الطوشة
عندما يقال أن الإنسان يؤثر ويتأثر بمحيطه الاجتماعي، فهذا كلام علمي، أكثر منه كلام عمومي، وربما علميته هي سبب شيوعه بين الناس، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في علاقة الأفراد بالمجتمعات: كيف يؤثر الإنسان في محيطه الاجتماعي وكيف يتأثر به؟، إجابة عن هذا السؤال، يمكننا مقاربتها بالمثال الفني العظيم، الذي قدمه فنانون كبار، من بينهم الفنان السوري الكبير دريد اللحام بطل مثالنا المذكور، وذلك في واحد من أعماله التي أحبها الجمهور، وما زال يتابعها بذات الشغف حتى اللحظة، وكأنها تصلح لكل زمان، فعندما يقرر “غوار الطوشة” وبعد خروجه من السجن، وبالتزامن مع حلول شهر رمضان، أن يصبح إنساناً صالحاً، بعد أن تم إصلاحه وهو داخل السجن، بعد قراءته كتب لم يفهمها! ويعتزم أيضاً إصلاح مجتمع حارة “كل مين إيدو إلو”. يستهل غوار مشواره الإصلاحي بمساعدة المثالي/الأخلاقي “حسني البورظان” الذي أصبح مختار الحارة، وباحثة ومُصلحة اجتماعية (صباح الجزائري) التي يقع غوار بحبها،ويحدث قطيعةً مع الجانب الشرير فيه، فيتخلّى عن قوته، وخبثه، ويهجر فلسفة “المخ والعضلات” (عقله المتّقد دهاءً ومكراً، وقوة أبي عنتر الجسدية)، ويتحول إلى جانب الخير الكامن فيه، فيسلك طريق البر والتقوى والخير والمحبة، بدلاً من طريق المقالب الشريرة، التي سلكها طيلة حياته،إلا أنه ومنذ انطلاقة مسيرته الإصلاحية، يصطدم غوار بجهل الناس وشرهم، لتأخذ أخلاقياته الجديدة بالتهاوي أمام جشعهم، وطمعهم، وأذيتهم، وفسادهم. -الفساد لم يكن محصوراً بالمجتمع/الناس، لقد كان من أعلى إلى أسفل الهرم الاجتماعي، حيث الفساد يبدأ من رئيس المخفر بدري أبو كلبشة (الفنان الراحل عبد اللطيف فتحي) لكنه –أي غوار- لا يستسلم، ولا يقطع الأمل في إصلاح المجتمع، ويصر على المضي قدماً في مشروعه الرومانسي، فيفتتح “دكاناً للإصلاح”.
يبدأ غوار، بحصد ثمار تخليه عن واقعيته وقوته، ورضوخه لإرادة الضعف المتدثّرة بعباءة “الأخلاق”، فيتعرض لمختلف أشكال الاعتداء والظلم من سكان الحارة، بدءاً من مُمثّل السلطة رئيس المخفر، وانتهاءً بالأقل شأنا من أهل الحارة “ياسينو”! ثم إن كل جريمة، كل سرقة، تحصل في الحارة تلصق به، يسجن، يهان، ويذل حتى من التي كان متيماً بعشقها “فطوم حيص بيص”. وفي تلك المرحلة العصيبة من حياة “غوار” لا يقف معه إلا “حسني البورظان” ربما لمثاليته، والمُصلحة الاجتماعية “المثالية أيضا” التي تقع في حبه، بالإضافة إلى صديقه العتيق “أبو عنتر”، والذي على الرغم من أنه “خريج سجون” ولا أحد يأمن شره، إلاَّ أنه عفوي، صادق ومخلص لصديقه غوار، ربما لتحرره من منظومة النفاق الاجتماعي، وتمرده على القوانين؟!.
وبعد الكثير من المحاولات اليائسة لإصلاح نفوس صدئة، لا يمكن إصلاحها بالكلام المنمق عن الخير والصلاح والاستقامة والتكافل والتعاضد، يؤمن”غوار”بحقيقة استحالة الإصلاح، يعترف بها، يستسلم لها، لكنه لا يعود إلى عهده السابق، بل إنه يبقى مصراً على لعب دور الإنسان المستقيم، فيتلقى المزيد من الذل والمهانة، ويرثي نفسه، ويهجو ضعفه، ويمتدح القوة بأغنية “يا عنيدي يا يابا” -وهي أغنية من التراث العراقي، غناها في العمل السالف الذكر الفنان الكبير”دياب مشهور”، لكنه يقدم نسخة معدلة منها، يغير كلماتها لتعبر عن حالته-.
وبعد أن فشل وانتكس مشروعه الإصلاحي، وبعد ازدياد معرفته بطبيعة الناس التي لا تحترم إلا القوي وتسخر من الضعيف، وبعد كفره بالبشر واكتشافه جوانب مظلمة في أعماقهم كان يظنها محصورةً فيه، يقرر “غوار” الانتحار عدة مرات، لكنه في كل مرة يفشل، كأن الطبيعة كانت تعطيه فرصة وتقول له: “إياك ليس هذا طريقك” أو كأنها ترسل له رسائل: أن عد إلى رشدك، إلى سبيلك الذي اصطفيته لك، سبيل الأقوياء والدهاة.
مع نهاية شهر رمضان، ومع سماع “غوار” لمدفع العيد، يستجيب لرسائل الطبيعة، لنداء القوة، فيعود إلى “غوار الطوشة” القديم، القوي، المتَّسق مع طبيعته البشرية، والعالم بجهل الناس وشر نفوسهم، “غوار” المؤذي، والثعلب المكار الذي يتلاعب بمجتمع كامل، ثم لا يلبث أن يعود إلى تحالفه القديم بين المخ والعضلات، بينه وبين حليفه الاستراتيجي “أبو عنتر”، ويستأنف مقالبه بأهل الحارة، ويبدأ بسد دين الاهانة والذل الذي أذاقوه إياه في فترة صلاحه ومحاولة إصلاحه الاجتماعية، تلك التي منيت ليس بفشل ذريع فقط، بل أذاقت صاحبها ويلات أن يخوض فيها، وفي هذا مقولة مهمة: “إصلاح المجتمع هو حالة جماعية، يبدؤها الشخص بنفسه أولا” كما أن التأكيد على أن زمن الأخلاق والاحترام للمجتمع الإنساني نفسه، لم يعد موجودا، وثقافة القوة التي تبرر كل شيء، وتجعل حتى من الباطل حقا بالقوة، هي الثقافة السائدة في مجتمعاتنا العربية عموما للأسف.
عند هذه النقطة تحديداً، عند عودة “غوار” إلى أصله، إلى نهجه القديم، إلى الاستجابة الإثباتية للحياة، وإلى الالتحام بروح القوة والتناغم مع سلطتها والتمتّع بامتيازاتها، وقطيعته مع نهج المصلحين المثاليين، يكون قد تم إصلاحه فعلاً، أصلح نفسه كما أراد، ونجح مشروعه الإصلاحي الفردي لا المجتمعي، لأن صلاح الفرد في قوته، في تصالحه مع ما اختارته الطبيعة له، في ضرورة أن يكون قوياً، ذئباً غولاً لكي لايفنى وينتهي ذبيحاً -وفي أحسن السيناريوهات مهمشاً منسياً مذلولا-على حلَبة مصارعة الحياة.
تمّام علي بركات