ثقافة

“نائمو إفسس”.. النّصّ الحاضر الغائب

كثيرةٌ هي الدّراسات الغربيّة والمشرقيّة التّراثية والمعاصرة، رصينة كانتْ يُعتدّ بها، أو منحازة وانفعاليّة لا تعادل قيمة الحبر المهدور في كتابتها. تلك التي تناولتْ موضوع السّرديّات التاريخيّة والنّصوص المقدّسة المتعاقبة. وتندرج ضمنها دراسة إشكاليّة لـ” كريستوف لولينبرغ” بعنوان “القراءة السريانيّة ـ الآراميّة للقرآن” بما أثارته من اهتمامٍ كبيرٍ على المستوى الشعبي والإعلامي. دراسةٌ يقترح صاحبها فكّ المغاليق الملغزة للنّص القرآني التي سجنت الدّارسين التراثيّين الإسلاميين والباحثين الذين تبعوا هذه المناهج العقيمة وعجزوا عن تقدير دور السريانية ـ الآرامية في تشكيل فضاءات النصّ، في قوقعة النصّ التاريخي المغلق. وأعطى مثالاً على ذلك سورة “الرحمن” ليجعل الأعناب البيض بديلاً لمعنى العذارى الجميلات “الذي تقوله القراءة التقليديّة التراثيّة للفظ “الحُور” اللّواتي ينتظرنَ المؤمنين في الجنّة الموعودة. الدّراسة بتوجّهها العام تصبّ في منحى الدراسات المنحازة التي تعكس شهوة عارمة لتجريد الجماعة الإسلامية من أهمّ كنوزها المقدسة كما يقول “دانييل أ ماديغان” من الجامعة البابويّة الغريغورية في روما. مؤكّداً أنّه لا يضير بضعة عناصر من الكتاب المقدس العبري أن تجد نفسها بصياغة جديدة في تراثٍ دينيٍّ آخر من الشرق الأوسط القديم. فروايات طفولة المسيح والآلام في الأناجيل المتوازية قد أخذت أشعارها من عناصر الأدب النبوي والمزامير، وهذا لا يجرّد الأناجيل من مصداقيّتها وهكذا دوليك.. فالقراءة المثمرة للقرآن لا تنتج من حالة صراعيّة تنافسيّة بل من قراءة موضوعيّة جدّيّة تؤسّس لوعي نقديٍّ تاريخي مقارن نرجو أن تصل إليه يوماً ما، منهجيّاتُ القراءة المختلفة. يقول “جبرائيل سعيد رينولدز” معدّ خطّة  هذه الدّراسات لـ مؤتمر جامعة نوتردام تحت شعار “نحو قراءة جديدة للقرآن” الذي عُقد عام 2005م وقدّمتْ على أساسه دراسات مهمّة لكتّابٍ مختلفيّ الرّؤى والتّوجّهات، شكّلتْ متن هذا الكتاب الذي حمل عنوان “القرآن في محيطه التّاريخي”  ترجمة سعد الله السعدي، منشورات الجمل.
أغلب الدّراسات المختصّة بهذا المجال اعتمدتْ النسخة الرسميّة المصريّة لعام 1924م . ثم طبعة فاروق لعام 1934م ذائعة الصّيت. والتي لاقتْ رواجاً حتى خارج حدود مصر، وتمّ تبّنيها عالميّاً بعد التخلّي عن طبعة “غوستاف فلوغيل” لعام1834م. ومشروع نسخة القاهرة سار على منوال منهج الخليفة عثمان والوالي الحجّاج بن يوسف اللّذين يُروى أنّهما أتلفا النسخ المنافسة ووزّعا نسخة موحّدة للقرآن في القرن الإسلامي الأول، حيث لجأت النّسخة المصريّة لإتلاف النّسخ الخلافيّة المليئة بالأخطاء، في نهر النيل، وأُشير لذلك في ملحق طبعة القاهرة. ثمّ اكتُشف عام 1972م مصدر جديد يصبّ في نفس التّوجه الخلافيّ حول مرجعيّة النّصّ المقدّس.
مخطوطاتٌ قديمة مخبوءة في الجامع الكبير في صنعاء اليمن تسبّبتْ في إثارة زوبعة عظيمة في الوسط الأكاديمي، أربكتْ الحكومة اليمنية التي اتُهمَتْ بفلش وثائق تخصّ أسرار المعتقد الإسلامي. كثيرةٌ هي التّفاسير والتّأويلات للنّصّ القرآني قديماً وحديثاً، فالبحّاثة الإسلاميّون كانوا صريحين في تقبّلهم لاختلافات معاني النصّ حمّال الأوجه، باختتام قولهم بـ: “اختلف أهل التّأويل بتأويل ذلك” أو إضافة لازمة في نهاية التّفسير تقول: “والله أعلم”. وثمّة أعمال كلاسيكيةّ غربيّة لـ “نولدكه، وشفالي وبرغشترسر، وبريتزل..الخ” حاولتْ جميعها إيجاد فهم ما للنصّ رغم الاختلافات في المناهج، وهذا هو هدف الكتاب الصّادر عن مؤتمر نوتردام بالتّحديد، بأن يشكّل تحدٍّ قويّاً متّزناً لحقلِ الدّراسات القرآنية الدّارجة، فهو كتاب يكرّم القرآن ويقرّ بتعقيده. والأمل معقود بأن يأخذ المجتهدون الآخرون على عاتقهم مهمّة إكمال هذا الجهد.
في القسم الأول تُعرض المشاكل الكبيرة التي عكستها آخر الخلافات في مجال الدراسات القرآنية: تكامل الفيلولوجيا “التّأصيل” والتّاريخ. والقسم الثاني يركّز على علاقة القرآن مع محيطه الثقافي. وقد استخدم الباحثون في طروحاتهم أدوت احترافيّة لمعرفة التّاريخ المحلّي واللغة والدّين لتزويدنا بمنظور محيطي مقنع للجذور الإسلامية لمنشأ النّصّ، أمّا الدراستان الأخيرتان فتشكّلان القسم الثالث للكتاب الذي يُهيب بالقارئ أن يتأمّل بأهمّيّة الدراسة النقديّة للنصّ. ونحنُ بدورنا سنُعطي مثالاً على منهجيّة الكتاب الأساسية التي تقوم على تناسل النّصوص المقدّسة من بعضها البعض عبر امتصاص النّصّ اللاحق لسرديّات وقصص ومواعظ أخلاقية وطقوس معيّنة من النّصّ القديم وتوظيفها في سياقٍ جديد. أمثولة “نائمو إفسس” المنسوبة لـ “يعقوب السروجي” السرياني. تقول السّرديّة: جرت محاكمة فتية إفسس بعهد الإمبراطور “ديسيوس” 249م ـ 51م الذي جاء إلى المدينة وأعلن عيداً للآلهة “زيوس، أبولو، أرتميس” آمراً الجميع بوضع البخّور على المذبح. وما كان من هؤلاء الفتية إلّا أن رفضوا الامتثال لذلك. فاستدعاهم الإمبراطور ليقف على سبب رفضهم، فواجهوه بشجاعةٍ قائلين: “نحن لا نسجد لأصنامٍ خُرسٍ، صنعتها أيدي البشر، إلهنا هو رب “ماريا” السموات هو معيننا، له سنسجد ونقدّم طهارة قلوبنا، ملكُكَ أنت زيوس وأبولو وأرتميس، ملكنا نحن، الأب والابن وروح القدس” حينها يصدر الإمبراطور أمراً بسجنهم فيهربون ويلتجِئون إلى كهف بأعلى الجبل، يتمّ إغلاق بابه بجدار متين لمنعهم من الخروج حتى الموت. ليأتي فيما بعد رجل ويبني حظيرة على رأس الجبل، مستخدماً حجارة الجدار المتينة والمنحوتة جيّداً. وما إن تزال الحجارة عن مدخل الكهف حتّى يدخل النّور إلى الدّاخل ويوقظ الفتية النّائمين الذين ظنّوا بأنّهم ناموا يوماً أو بعض اليوم. فيقترح أحدهم أن يسير قائدهم “يمليخا” إلى المدينة ليشتري الطعام. ومع هبوطه إلى المدينة يستغرب التّغيرات الهائلة التي حدثت فيها حيث يشاهد الصّلبان في كلّ مكان. ويزداد استغرابه حين يظنّ الآخرون بأنّه حصل على كنزٍ بسبب غرابة شكل نقوده القديمة. فيوضّح لهم فيلسوفٌ ما، أنّها من زمن الإمبراطور “ديسيوس” قبل 370 سنة وهم الآن بزمن الإمبراطور “ثيودوثيوس” 408 ـ 50 م” ويتمّ إجبار “يمليخا” بأخذهم إلى أصدقائه المختبئين في الكهف. وهكذا يعلم الإمبراطور بالأمر ويستحثّهم على الهبوط إلى مدينة “إفسس” ليقيم لهم هيكلاً، فيرفضوا ذلك الخ.
والآن صديقي القارئ ألا نجد بهذه الأمثولة من حيث الجوهر والرّمزيّة الأخلاقية والإيمانيّة تجسّداً آخرَ لها في الموروث الشفاهي والمكتوب الإسلامي؟ ألم يتردّد صداها طويلاً في ذاكرة ومخيّلة كلٍّ منّا حين كنّا نغفو على رنين حكايا جدّاتنا وأمّهاتنا الجليلات، ونحن نسمع العجب عن غفوة هؤلاء النّاس الطويلة وكلبهم الذي يحرس باب الكهف كلّ هذه السنين!. وتكثر أسئلتنا ويعلو سقفُ حيرتها وتقلّ الأجوبة الشّافية؟ هل نجد صعوبة في تلمّس هذا النصّ المغيب في ثنايا وظلال “سورة الكهف” القرآنيّة حين قال الله  لرسوله: “أمْ حسبتَ أنّ أصحاب الكهف والرّقيم كانوا من آياتنا عجبا”؟.
أوس أحمد أسعد