السيناريو “المورسكي”.. هل يمكن أن يطرد من بقي من الفلسطينيين في بلاده؟
بقلم: عمر عاصي
كاتب من فلسطين
طرد الأندلسيين من بلادهم لم يكن بين ليلة وضحاها، فسقوط الأندلس عام 1492 لم يكن إلا “السقوط السياسي”، ورحيل آخر خليفة عن الأندلس، وفي الواقع، فقد استمر الكثير من الأندلسيين بالعيش في الأندلس تحت مسمى جديد، وهو “المورسكيون”، وقد عاش هؤلاء في الأندلس، حتى طُرد جلّهم عام 1609، أي بعد أكثر من 110 أعوام على سقوط الأندلس، ولطالما اتهموا بــ “عدم الولاء لاسبانيا”، كما أن اضطهادهم الشديد من قبل “محاكم التفتيش” جعلهم يثورون أكثر من مرة، ولطالما عقدت معهم المعاهدات، كي يهدؤوا، حتى تم طردهم أخيراً باعتبارهم طابوراً خامساً، وباعتبارهم يشكّلون خطراً وجودياً على اسبانيا، وباعتبار ولائهم للإسلام، وهي تهم طالما سمعها الفلسطينيون من الكيان الصهيوني، فهل يخبئ المستقبل سيناريو مرعباً كالسيناريو المورسكي؟.. ولأن المستقبل يقرأ من عدسة التاريخ، فلنحاول أن نتعظ من الماضي.
فلسطينيو الداخل: “المورسكيون”
في قرية الثغرة في ريف غرناطة تسكن عائلة روميرو، وهي من العائلات المورسكية التي بقيت في الأندلس بعد طرد أغلب المورسكيين عام 1609 فيما عُرف بـ “الطرد الكبير”، والمورسكي هو المُسلم الأندلسي الذي قرر البقاء في الأندلس بعد أن سقطت آخر الممالك الأندلسية، وهي مملكة غرناطة، وذلك عام 1492، ثم اضطر أن يُخفي هويّته الإسلامية كي يبقى في بلاده، يقول عبد الصمد روميرو الذي اكتشفت أصوله صدفة وهو يُصلي أمام جدته “المورسكية” التي أخبرته أنها كانت ترى جدّتها تفعل ما يفعله في جوف الليل، ولكنها لم تكن تفهم شيئاً مما تفعله جدّتها التي كانت تفعل ذلك سراً، خوفاً من أن يُكشف أمرها، ولتبسيط حكاية “المورسكيين”، قال لنا مازحاً: نحن مورسكيو اسبانيا، وأنتم الفلسطينيون مورسكيو “إسرائيل”، مشيراً إلى أن فلسطينيي الداخل هم كالمورسكيين في بقائهم في بلادهم، وتحمّلهم كل أشكال العنصريّة.
في الداخل الفلسطيني، لم تكن هناك مشكلة بالنسبة لـ “إسرائيل” في بقاء الفلسطيني على دينه الإسلام أو ديانته المسيحية، ولكنها أرادته دون هويّته الفلسطينية العربية، الكثير من الفلسطينيين كانوا يضطرون لتغيير أسمائهم إذا ما أرادوا الالتحاق بجامعات عبرية، والحصول على سكن طلابي، أو الحصول على عمل، فإبراهيم، مثلاً، يتحول إلى “أفي” حتى يعود إلى قريته، فيعود إلى طبيعته، كما يذكر الباحث مهند مصطفى في كتابه “الحركة الطالبية العربية في الجامعات الإسرائيلية”، تماماً كما كان لقائد ثورة البشارات محمد بن أمية المورسكي اسم آخر اسباني، وهو فراندو دي بالور.
عدم الولاء للدولة!
يكشف المهندس والباحث في تاريخ المورسكيين علي المنتصر الكتاني الكثير من التفاصيل الدقيقة لقضايا “عدم الولاء” التي وصلت إليها محاكم التفتيش الاسبانية، مثل قضيّة دييغو دياس الذي تعتبر تهمته من أشهر وأعجب التهم، فقد حُوكم لأنه كان “يطبخ غداءه بالزيت عوضاً عن شحم الخنزير، ويأكل اللحم أيام الجمعة دون سبب وجيه، ولا يذهب للكنيسة لا هو ولا زوجه، ولا يعلمان الديانة النصرانية لأولادهما، ويغسلان أيام الجمعة، ويلبسان ملابس فاخرة، ويأوي إلى بيتهما مورسكيو مرسية من بغالين وغيرهم، فيتكلمان معهم باللغة العربية، ويقفلان عليهم الغرفة لساعات طوال”.
واستمرّت المحاكمة عاماً كاملاً، كون القاضي شكّ بسبب التهم الموجهة بأن دييغو ينتمي إلى طبقة المسلمين الذين يحفظون في قلوبهم سراً دينياً.
بالنسبة لفلسطينيي الداخل ممن بقوا في أراضيهم التي أعلن عنها الكيان الإسرائيلي عام 1948، فإن فترة الحكم العسكري التي امتدّت قرابة عشرين عاماً، من عام 1948 حتى 1966، كان يُنظر لفلسطينيي الداخل الذين فرضت عليهم الجنسية “الإسرائيلية” على أنهم “طابور خامس”، وخطر أمني، وبالتالي بدأ تحديد حريّاتهم، ولعل مجزرة كفر قاسم عام 1956 هي من أبرز النماذج التي تعكس الإجراءات العنصرية التي تتبعها “إسرائيل” في هذه المرحلة، ولكن هذا ليس كل شيء بالطبع.
في السلسلة الوثائقية “أصحاب البلاد”، وهي خمس ساعات وثائقية يحضر فيها أكثر من 50 ضيفاً من أصحاب البلاد الذين هم من فلسطينيي الداخل، تكشف المخرجة روان الضامن الكثير من تفاصيل مرحلة خضوع الفلسطينيين في الداخل للحكم العسكري للكيان الإسرائيلي، إذ يذكر جمال زحالقة أن الحاكم العسكري استدعى والده يوم ميلاده، وكان السبب أنه سمى ابنه بـ “جمال”، بحجة أن هذا اسم متطرف، لأنه يواطئ اسم جمال عبد الناصر، ويذكر الشاعر حنا أبو حنا أن مُعلماً في مدينة الناصرة علّم طلابه قصيدة “عليك من السلام يا أرض أجدادي”، ففصل من عمله!.
في حديث مع أحد كبار السن الفلسطينيين، أكّد أنه ذهب أثناء الحكم العسكري ذات يوم لشراء دجاجة من مستوطنة يهودية، فأُلقي القبض عليه وهو عائد، وتم ضربه ضرباً مُبرحاً، بحجة أنه ينوي القيام بأعمال تجارية غير شرعية، وأنه يعمل في التهريب.
وذكر لنا آخرون أنه حتى من كانوا يعملون لدى الكيان الإسرائيلي بتصاريح، كانوا يلقون أشكالاً من العذاب إذا تم العثور مع أحدهم على كميّة طعام أكثر من حاجته، كأن يأخذ معه ثلاث بيضات ليتناولها في العمل، وكانت هذه حجة كافية لإهانته وضربه، وربما سجنه أحياناً، باعتباره يعمل في التهريب.
الخيانة العظمى!
في روايتها “ثلاثيّة غرناطة” تعرض الروائية الراحلة رضوى عاشور تفاصيل الحياة المورسكيّة بعد سقوط الأندلس حتى الطرد الكبير، وبين السقوط والطرد، ولا تنسى الكاتبة أن تأخذنا إلى تفاصيل “انتفاضة البيازين”، و”البيازين” هو الحي الإسلامي المورسكي المتبقي في غرناطة، وللتشبيه تؤكد الكاتبة، في مقابلة لها ضمن برنامج “أرشيفهم وتاريخنا” حول ملف سقوط الأندلس، أن انتفاضة البيازين مُشابهة إلى حد كبير للانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والتي عُرفت بانتفاضة الحجارة، وهو ما حصل كذلك في غرناطة، إذ راح شباب المورسكيين يرشقون جنود “قشتالة” بالحجارة، وأغلقوا أبواب البيازين، واختاروا مجموعة من أربعين شخصاً تمثّلهم كثوّار.
في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، شارك عدد من فلسطينيي الداخل في المدن والقرى العربية، وكانت النتيجة استشهاد 13 شاباً منهم، وفي مُحاولة لتهدئة الأوضاع، تم الإعلان عن لجنة تحقيق “إسرائيلية” فيما جرى، وكانت الخلاصة بعد 3 سنوات من الاستماع إلى مئات الإفادات، وفحصت آلاف المستندات، وفحصت عشرات آلاف الصفحات من مادّة الأدلّة، مع أنه لم يكن هناك مبرر لقنص المتظاهرين، في عام 2005 رفضت توصيات اللجنة بتقديم لوائح اتهام ضد من قاموا بقتل المتظاهرين، وفي عام 2008، أغلقت كل الملفات، وبقي الجنود القتلة، ومن يقف وراءهم بعيداً عن المساءلة والعقاب، لأن “قتل” الفلسطيني العربي ليس جريمة في المشروع الصهيوني الذي يدير “إسرائيل”، وينطبق اليوم هذا على كل “قتل بدم بارد” في الضفة الغربية المحتلة!.
وبالعودة إلى الأندلس، فقد اشتعلت ثورة غرناطة الكبرى بين 1568-1570، بعد حوالي 80 عاماً من سقوط الأندلس، وكانت تمثّل حالة اليأس الشديد من المفاوضات مع الاسبان، وإمكانية التعايش السلمي، وقد بدأ الحشد للثورة، وكان يتوقع أن يصل عدد الثوّار إلى 45 ألف ثائر مورسكي، كما يشير الباحث علي الكتاني، غير أن الأندلسيين كانوا يأملون بتدخل الدولة العثمانية والمغاربة لمُساعدتهم، إلا أنه، وفي الواقع، فشلت الثورة بسبب خيانة بعض المورسكيين، وعدم وصول المساعدات.
السيناريو الأسوأ
صحيح أن ثورة الأندلسيين لم تنجح، ولكنها أحدثت خوفاً كبيراً وهلعاً في اسبانيا، وكانت النتيجة أن تم تهجير المورسكيين من بيوتهم إلى جميع أنحاء الممالك الاسبانية، ولكن الخوف لم يتوقف، وعوامل عديدة تطوّرت لاحقاً كانت سبباً في طرد المورسكيين من بلاد الأندلس عام 1609، أي بعد 110 تقريباً من سقوط الأندلس فعلياً!.
إذا تأملنا الحالة الفلسطينية سنجد أن “غولدا مائير” يوم سئلت عن أسوأ وأجمل الأيام التي عاشتها، فقالت: “إنه يوم حرق المسجد الأقصى”، فسألوها كيف ذلك؟ فأجابت: “لقد تخيّلت أن الشعوب العربية ستحرك الجيوش نحو “إسرائيل” فشعرت بخوف شديد، ولما توجه العرب إلى مجلس الأمن، شعرت بفرح شديد”.
في الأندلس، وكجزء من خطّة الثوار في ثورة غرناطة الكبرى، بدا أنهم ينوون استخدام ملابس الجيش العثماني لإثارة الرعب في قلوب الاسبان، ومن يقرأ عن تاريخ الاسبان مع المورسكيين يكتشف مدى الخوف الذي كان يثيره ذكر العثمانيين أمام الاسبان، ولكن كانت الدولة العثمانية مشغولة عن الأندلسيين يوم طردهم.
وفوق كل هذا فقد هددت “إسرائيل” باعتقال قيادات هذه الحركة، كالشيخ رائد صلاح الذي حُكم عليه بالسجن، تماماً كما يتم اعتقال قيادات فلسطينية كثيرة في القدس والضفة الغربية، وبالعودة إلى الأندلس نجد مجلس الدولة “القشتالية” في تاريخ 20 كانون الأول 1608 بقيادة الملك الاسباني فيليب الثالث قد أقر بأن أنجع وسيلة لتسهيل طرد المورسكيين هي اعتقال قياداته.
لكن النضال ضد المشروع الصهيوني سيشمل كل الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر نتيجة نظام فصل عنصري آخذ بالتبلور نهائياً، وقد تندلع مخططات صهيونية خطيرة ومجنونة تستهدف المسجد الأقصى بشكل أكثر مباشرة، والمتابع للحالة الفلسطينية منذ أوسلو عام 1993 حتى اليوم يجد أن الأمور آخذة في التعقيد، إذ اعتدت “إسرائيل” على الفلسطينيين بقصفهم جواً وبراً في قطاع غزة المحاصر وحده ثلاث مرات بين 2009 – 2014، كما أن انتفاضة القدس والتغطية الإعلامية لعملية “نشأت ملحم” في تل أبيب، وهو من فلسطينيي الداخل، قد سببت هلعاً غير مسبوق في “تل أبيب”، لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أخذ يحرض ضد فلسطينيي الداخل علناً، متوعداً إياهم باتخاذ إجراءات، وخيّرهم بين انتمائهم الفلسطيني، وجنسيتهم “الإسرائيلية، مستخدماً سلاح “الولاء للدولة”.
وبحسب الإحصاءات فقد كان عدد الفلسطينيين في الأراضي التي أعلنت عنها “إسرائيل” حوالي 950 ألف شخص، وبعد تهجير قرابة 800 ألف فلسطيني، بقي حوالي 150 ألفاً فقط، إلا أن عددهم اليوم بلغ أكثر من مليون ونصف، ولكن شبح الطرد والترحيل لم يغب تماماً.
ويعود تاريخ هذا الشبح إلى ثمانينيات القرن الماضي، حيث بدأت القوى اليهودية المتطرفة بالصعود، إذ طالب الحاخام “مائير كهانا” بضرورة ترحيل العرب من “أرض إسرائيل”، وفي عام 2015 أجرى مركز الأبحاث الأمريكي “بيو” استطلاعاً شارك فيه 6000 مشارك، تبيّن فيه أن 48 في المئة من اليهود الإسرائيليين يؤيّدون خيار الترحيل، وبالخوض في تفاصيل البحث نجد أن 36 من “العلمانيين” مع الطرد، ولكن هذه النسبة متواضعة جداً، بالأخص إذا علمنا أن 71 في المئة من “المتديّنين”، و59 في المئة من “الحريديين”، و54 في المئة من “التقليديين” يؤيدون طرد الفلسطينيين.
هذه الأرقام، ليست سهلة على الاستيعاب، وهي تتطلب منا الكثير من التأمل، كما يستحق منا تاريخ المورسكيين في الأندلس أن نتأمله وندرسه بعمق حتى لا يتكرر “السيناريو المورسكي”، لأنه لو تكرر فهذا يعني أن نكبة جديد ستحصل عام 2065!.