ثقافةصحيفة البعث

معطف أكاكي السوري

 

“لم يبق إلا أن أبيع أنا ردائي هذا أيضا يا أكاكي أكاكيفتش”، قال لنفسه، ثم وضع الرداء المقصود في كيس متوسط الحجم، وهبط برشاقة ميت إلى الأسواق التي تباع فيها مثل هذه الأردية عادة، خصوصا وأن الشتاء على الأبواب؛ كان واثقا من كونه سيجلب ثمنا جيدا، فلقد اعتنى به بماء العين، بعد أن أتاه كهدية من أخته المقيمة في واحدة من دول الصحراء، وعليه الآن أن يتعامل مع ردائه العزيز، كما يتعامل تجار الثياب المستعملة مع ما يبيعون في السوق السوداء كما تسمى أو “سوق الحرامية” وقف مثلهم، وضع الرداء على ساعده مقلدا الجميع، لكن خجلا اعتراه أن ينادي ليدلل عليه.

قال في نفسه: “لابد أن يأتي من يقدّر قيمة هذا الرداء ولكن المصيبة أن يعتقد أحدهم أني لصا”، وها هو يقف منذ 7 ساعات دون أن يحظى حتى بنظرة واحد نحوه، وهكذا مضى اليوم كله دون أن يقدر على بيع ردائه الثمين، برد الطقس قليلا، وجاء ليضعه على أكتافه، لكنه اقلع عن ذلك في آخر لحظة، فهو لا يريد له أن يتسخ، لأنه قادم منذ الغد، ليحاول بيع هذا الرداء الشاحب الجميل.

في اليوم التالي وقف بالمكان ذاته الذي وقف فيه البارحة بعد أن ارتدى قبعة، تسمح بإخفاء وجهه قليلا، وأيضا بدأت الساعات تمرّ دون فائدة، جاءه رجل هرم عمره كما تبدي تغضنات وجهه ويديه بالـ 80، وقف وتأمل الرداء وبدأ يتمتم: نوعيته جيدة، وقماشه أصلي حتى أن بطانته فارغة من أي ثقب مهما صغر، لكن موضته بطلت.

“وهل أنت مهتما حقا بموضته”؟. قال أكاكي.

رد العجوز بعد أن تفحص الرداء: كم تريد ثمنا له؟

لا أريد أن أتاجر، كم يستحق برأبك؟

يستحق كثيرا ولكن ليس هنا

أين إذا؟

لم يستمع العجوز المتخابث، أو تعمد أن لا يستمع لآخر سؤال، وقال، هذا بـ 1000 ليرة ثمنا له.

ولكنك يا عم تعلم أنه أغلى ثمنا بكثير

ضحك الرجل ومضى، وعندما ابتعد عدة أمتار، أدار وجهه وقال له:

هنا لن يشتري أي كان رداءك الشاحب هذا رغم أنه خال من العيوب، بل ويصلح للاستخدام لسنوات قادمة، فلماذا تبيعه؟.

بدأت معدته بالقرقعة، فتذكر أولاده الذين لم يأكلوا منذ يوم وبكى.

لم ينتظر طويلا وغادر، لحقه وقال له أنه موافق على السعر:

كاد الرجل الهرم أن يبكي من فرط السعادة، أنقده الألف قطعة واحدة؛ قام بخلع ردائه القديم، المكتظ بالثقوب وارتدى المعطف الجديد على الفور، متغاويا به بين الفصول، قبل أن يختفي نهائيا.

قال أكاكي السوري: “المجنون، ترك رداءه القديم على الأرض وذهب”، ثم رفع معطف الرجل العجوز عن الأرض، وإذ به رداء ثقيلا أيضا، لكن الثقوب التي فيه، من الصعب على أي خياط، حتى ذاك السماوي أن يرتيها.

حاول اللحاق به ما أمكن، لكنه اختفى تماما.

في البيت وبعد أن أيقظ زوجنه وأولاده لوجبة فلافل، جلس ينظر إلى رداء الرجل، إنه نسخة قديمة من معطفه الذي ابتاعه ذاك العجوز منذ قليل، وكأن الفقر إرثا دهريا يحمله الفقراء عن أكتاف بعضهم البعض.

طلبت إليه الزوجة أن يشاركهم الطعام، فهو أيضا لم يأكل منذ مدة، لكنه كان مشغولا بشأن آخر، عدا عن كون ماهو متوفر من الطعام، لا يكفي حتى أن يشبع الصغار. حمل المعطف المثقوب وقام ليجربه أمام المرآة، كان رداء شاحبا أيضا، لا يرد لا برودة الشتاء ولا سخونة الصيف، لكن له شكل الرداء.

“ربما الشكل والرائحة من كل شيء هو كل ما بقي لنا”، ثم نظر إلى صورة متشحة بالسواد، لشاب يبتسم في صورة، صار يرى مثلها في كل مكان، حتى على شارات المرور وأشجار الحدائق وأجنحة العصافير المقيمة.

في الصباح الباكر أخذ البرد يتسلل إلى عظامه، ثم قرر أن يتغطى برداء الرجل الثمانيني، لكنه لم يفلح ولو للحظة واحدة بالشعور بالدفء.

في الحقيقة لم يكن رداء بقدر ماهو ثقوب متصلة ببعضها البعض بخيطان باهتة.

كان يهذي في نومه بعد أن صارت معدته تشد عليه ألمها: ها أنتم من يبيعني رداءه إن كان صالحا للتدفئة، فالشتاء قادم وأنا بلا رداء، وروحي عارية، ولا أريد أن اعتاد ذلك أيضا، كما اعتدت أشياء أدق رقبة، هيه أنتم من…

كان حلما طويلا، لم يفق منه بعد.

تمّام علي بركات