الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

شرشف قصب (4)

 

د. نضال الصالح
أوّل مرّة، ومنذ إخفاق محمّد في علاقته مع رندة، زميلته في الجامعة، أحسّ بأنّ ثمّة مخلوقاً صغيراً يضطرب بين أضلاعه، فلم يكن منه، وقد ازداد نفوذ عطر بثينة فتكاً به، إلا أن غادر مقعده وراء الطاولة، وزعم أنّه تأخّر على موعد له مع رئيس التحرير، وغادر المكتب وعطر بثينة يمضي من رئتيه إلى خلاياه كلّها، وصورة عينيها وهي تقول له: “أعتذر أستاذ، والله لم أكن أقصد” تكاد ترغم الكلمات المزدحمة في رأسه على مغادرة حنجرته، فيكون ما لا يتوقّع حدوثه، أو يتوقّع حسب ما عرف عن بثينة من استهتار، واستخفاف بكلّ شيء حولها، بما في ذلك طريقة حديثها مع زملائها وزميلاتها في الصحيفة، وكان يعني أن تقول ما تشاء قوله من دون أن تحسب أيّ حساب لأحد، حتى لو كان المدير العام نفسه.
في الطريق إلى حيث لم يكن يدري كان محمد يستعيد رواية “باتريك زوسيكند” التي كان صديقه الأقرب إلى روحه في الصحيفة، حسن، قدّمها إليه بمناسبة فوزه بجائزة أفضل تحقيق صحفي في العام الذي مضى، رواية “العطر، قصّة قاتل”، ولاسيما شخصية بطلها العطّار “غرونوي”، ولاسيما أكثر علاقته، أي البطل، بتلك الفتاة الشابة، ذات العينين الخضراوين، التي سحرته رائحة عطرها المجهول بالنسبة إليه، والتي ما لبث، تحت وطأة رغبته في معرفة سرّ، وربّما أسرار، ذلك العطر، بل في تملّكه، أن قتلها خنقاً، ثمّ جلس يستنشق، كمَن فقد الهواء لوقت، رائحة ذلك العطر حتى آخر أثر له من جسد الفتاة.
دقائق لم تزد على عشر، وبينما هو مرهق بصورة ذلك المشهد من الرواية وهو الذي لم يكن يقوى على رؤية عصفور يرتجف من البرد، رأى نفسه وهو يستدير عائداً نحو المكتب لكأنّ قوّة خفية كانت تجذبه إليه، ثمّ لم يكد يفتح الباب، حتى تسمّر في مكانه وهو يرى بثينة مسندة رأسها بين ذراعيها وتبكي بصوت عالٍ، ولم تكد تُنهض رأسها وتراه، حتى تحوّلت إلى تمثال من البازلت، فكفّت عن البكاء، وسارعت إلى حقيبتها، فأخرجت مناديل ورقية، وأخذت تمسح الدمع المضطرب في عينيها وعلى خدّيها، ثمّ نهضت نحو الباب الذي كان محمّد يستند إليه كأنّ على رأسه الطير، وما إنْ بلغت الباب، حتى تحرّر من أغلال الصمت الذي دهمه، وقال بينما يمينه تستطيل نحو كتفها لتستوقفها في المكان: “أعتذر”، ثمّ لم يكد يتمّ كلمته، حتى كان ما لم يكن يتوقّع ولم تكن بثينة نفسها تتوقّع أن تفعل. وجدت نفسها تحيط جسده بساعديها، ثمّ تلقي برأسها على كتفه، ثمّ تجهش في البكاء من جديد، ثمّ محمّد وهو يشدّها إلى صدره، ويمسح على رأسها ووجهها، ويغلغل أصابعه بين سنابل شعرها، ثمّ وهي تضربه برفق على صدره وتردّد: “كم أنت قاس!”.
ما الذي حدث؟ كيف حدث؟ لا محمّد كان يعرف الإجابة عن أيّ من السؤالين، ولا بثينة نفسها كانت تعرف. ما كانا يعرفان، بل ما يتذكران من تلك اللحظة، أنّ الباب وراءهما كان مفتوحاً على آخره… (يتبع)