دراساتصحيفة البعث

من وعد بلفور إلى وعد ترامب

د. سليم بركات

وعد بلفور هو اسم الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور، وزير الخارجية البريطاني إلى اللورد اليهودي ليونيل وولتر روتشيلد أحد أبرز أركان المجتمع اليهودي البريطاني، والتي يتعهد فيها بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين العربية؛ وصفقة القرن هي الاسم الإعلامي لخطة تعمل عليها الولايات المتحدة الأمريكية بالاتفاق مع إسرائيل وبعض الحكام العرب لتصفية القضية الفلسطينية، وإلزام العرب بالتنازل عن فلسطين، لتصبح وطنا قوميا لليهود، خاليا من العرب، مع إلغاء حق العودة، وتجنيس العرب الفلسطينيين في البلدان التي يقطنون فيها. وعد بلفور هو البيان العلنيّ الذي أصدرته الحكومة البريطانية في 2 تشرين الثاني 1917، ونصه: “تنظر حكومة صاحبة الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهودي، وستبذل ما بوسعها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن لا يتمّ أيّ عمل من شأنه أن ينقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في الدول الأخرى”.

لم يأت هذا البيان من فراغ، بل يمكن إرجاعه إلى بداية الحرب العالمية الأولى 1914، بعد أن بدأ مجلس وزراء الحرب البريطاني النظر في مستقبل فلسطين، وبعد أول مفاوضات بين السير مارك سايكس بيكو والقيادة الصهيونية في شباط 1917، حيث طلب بلفور من روتشلد وحاييم وايزمن، تقديم مشروع إعلان، إلى مجلس وزراء بريطانيا، أفرج عنه في 31 تشرين الأول من نفس العام ليصدر في 2 تشرين الثاني عام 1917، ليسمى منذ ذلك الوقت بوعد بلفور.

لم يكن لهذا الوعد سابقة في القانون الدولي، وورد غامضا عن عمد دون إلى الإشارة إلى إقامة دولة يهودية، أو تحديد حدود معينة له في فلسطين، ولقد اعترفت الحكومة البريطانية فيما بعد في هذا الغموض بعد أن أقرت في عام 1936، أنه كان من المفترض أن تؤخذ  آراء السكان في فلسطين بعين الاعتبار، كما عادت واعترفت بذلك في عام 2017 بأنه كان ينبغي أن يتضمن هذا الوعد حماية الحقوق السياسية للعرب الفلسطينيين.

أسباب عدة أدت إلى إعلان وعد بلفور، منها وجود الكثير من الصهاينة في المناصب الكبيرة للحكومة البريطانية، ومنها أن إصدار هذا الوعد لم يكن سوى عداء للسامية، للتخلص من اليهود ولملمة شتاتهم خارج أوروبا، ومنها أن بريطانيا قد هدفت من وقوفها مع اليهود إلى كسب تأييد يهود العالم، ولاسيما يهود الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها أن السيطرة على فلسطين ووضعها بتصرف اليهود فيه مصلحة استراتيجية بريطانية تبقي مصر وقناة السويس بشكل خاص تحت إدارة النفوذ البريطاني، كما تضمن وجود طرق الاتصال الحيوية التي تربط المستعمرات البريطانية بالهند.

يعدّ وعد بلفور سببا في حدوث نكبة فلسطين عام 1948، حيث قام الصهاينة وبدعم مسلح من الحكومة البريطانية من طرد السكان العرب الفلسطينيين الأصليين، وتشريدهم، بعد أن دربت بريطانيا جيشا صهيونيا مزودا بأحدث الأسلحة، ومنحته القدرة على الحكم الذاتي، وتأسيس الوكالة اليهودية، ليبدأ التطهير العرقي بترحيل الفلسطينيين خارج أراضيهم. ولقد كان الرد العربي ولاسيما الفلسطينيّ منه كاملا، وقويا، وعنيفا، على هذا الوعد، حيث أدت المواجهة إلى أعمال العنف والتوتر بين العرب واليهود، لتكون الانتفاضة تلو الانتفاضة، بدءا من انتفاضة موسم النبي موسى في عام 1920، ولتكون المؤتمرات – بدءا من المؤتمر  الفلسطيني في حيفا 1920، وحتى يومنا هذا – والتي ترافقت مع الانتقادات الموجهة إلى الحكومة البريطانية، الضغط الثوري الفلسطيني، ألزمت الحكومة البريطانية بإصدار قرار بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين في عام 1944، وكل ذلك لم يمنع الانتفاضات والثورات الفلسطينية من الاستمرار حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وبعدها تم إعلان إسرائيل دولة رسمية باعتراف الأمم المتحدة عام 1948، مع أن الوعد يتضمن كلمة وطن ولا يتضمن كلمة دولة كي لا يمس بالحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى التي تعيش في فلسطين.

لقد كان وعد بلفور بمثابة كارثة عربية، وكان إنجازا غير مسبوق للمشروع الصهيوني، ولقد تم استقبال هذا الوعد المشؤوم في الوطن العربي بالرفض، وبالانقسامات العربية، ولم يقبله الشعب العربي وبخاصة الفلسطيني بأي شكل من الأشكال، لأسباب منها أنه يمثّل إنجازا للصهاينة على حساب الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني، ومنها أن الكثير من البريطانيين كانوا ومازالوا ضد هذا الوعد واعتبروه خيالا مجنونا، ومنهم يهود أمثال إيدوين مونتاجو وهو يهودي عمل عضوا في البرلمان، ووزيرا لشؤون الهند في الامبراطورية البريطانية في ذلك الوقت، وكان يرى في هذا الوعد أنه ينشىء ولاء مزدوجا عند اليهود على مستوى العالم، وهذا ما هو واضح اليوم في القانون الأمريكي، الذي يسمح لليهودي الأمريكي بازدواجية الهوية، لتكون أمريكية وإسرائيلية في آن واحد، ومنها أن الكثير من البريطانيين ممن رفضوا المسودات الأولى لوعد بلفور آنذاك، والتي بلغت اثنتا عشر مسودة، ما زال رفضهم مستمرا في مختلف أطياف الشعب البريطاني حتى يومنا هذا،  علما أن الحكومات البريطانية المتتالية منذ هذا الوعد كانت ومازالت تصغي وبدقة لمطالب الحركة الصهيونية لاعتبارات استراتيجية واعتقادية، وهي تتلاقى في هذا الإصغاء مع مواقف حكومات الولايات المتحدة الأمريكية المتتالية، ومنها العلاقة القائمة ما بين القادة الصهاينة وبعض القادة العرب من أجل تنفيذ ما ورد في هذا العهد، والتي مازالت مستمرة حتى يومنا هذا، وربما أصبحت أكثر وضوحا من خلال صفقة القرن، التي لم تنضج بعد، وقد لا تنضج نتيجة رفض سورية وباقي محور المقاومة لها،  ولاسيما إذا ما أعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، لتصبح قضية العرب الأولى بامتياز.

قبل مئة عام كان وعد بلفور، واليوم  وعد ترامب بعد أن اتخذ القرار بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس تمهيدا لصفقة القرن، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على الانسحاب الأمريكي من عملية السلام برمتها، وعلى التحدي الأمريكي للشرعية الدولية، وجرّ المنطقة إلى الحروب الدينية، والحبل على الجرار.

قرار ترامب كان بمثابة الوعد الجديد لإسرائيل، وهي تحتفل بالعيد السبعين لقيامها، وسط موجة تطبيع وغزل عربي غير مسبوق على الرغم من رفض الشعب العربي للقرار الأمريكي، لكن التسريبات الرسمية والإعلامية كشفت عن تفاهم أمريكي صهيوني عربي أصبح يعرف بصفقة القرن، والتي تبشر بعصر جديد من العلاقات غير المسبوقة بين العرب وإسرائيل كما يصفها بنيامين نتنياهو، وعلى الرغم من الرفض العربي والدولي، وعلى رأس ذلك مجلس الأمن، غير أن الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل لم يتغير، وكيف يمكن أن يتغير في هذا العجز العربي وعلى رأسه العجز الفلسطيني، الأمر الذي يؤكد أن تغيير الموقف الأمريكي لا يكون إلا بتغيير الموقف العربي، وهذا لا يكون أيضا إلا من خلال الالتزام بمشروع المقاومة، الذي يحتضنه الشعب العربي ، إنه المشروع الوحيد الذي يمتلك تغيير الموقف العربي، ليصبح فعالا في مواجهة المشروع الأمريكي الإسرائيلي الرجعي العربي، بعد أن أصبح اللعب على المكشوف بين الشعب العربي وبعض حكامه، ممن ينسقون بكل وقاحة مع العدو الصهيوني في مواجهة مشروع المقاومة الممتد من إيران حتى فلسطين، مرورا بسورية ولبنان.

بقي أن نقول: إذا كان وعد بلفور قد مرّ، فيجب أن لا تمرّ صفقة القرن، حيث آن الأوان إلى أن يسحب العالم اعترافه بإسرائيل، وهذا لا يكون إلا بتوحيد قوى المقاومة في الوطن العربي، وعلى رأس ذلك مقاومة الشعب العربي الفلسطيني، كما لا يكون إلا بالوقوف مع سورية وباقي محور المقاومة.