“تداعيات الذاكرة المطرية”.. قصص من حقل الذاكرة وسماء الحلم
بعنوان من ثلاث كلمات وحدين، تبدأ (تداعيات الذاكرة المطرية) للكاتب والشاعر عماد الدين إبراهيم، تستدعي ذكريات، ذكريات أخرى، وأحداث أحداثاً أخرى، وفق كلمات وحالات مفتاحية لا ضابط لها، فالتداعيات تشكل الحد الأول في العنوان، تتواتر في فعل لا إرادي، قوامها الذكريات المنهملة، تلك الذكريات ذات العلائقية غير المتسقة ولا المتوقعة.
الحد الثاني هو المطر، بدلالاته الثرية والمعروفة، القائمة على تأثيره الطاغي والواسع في نشاط الذاكرة. المطر الذي يحرّض ما فتر من مخزون الذاكرة، والذي يجعل لها عمقاً ويفسح لها حاضرا في تمثّل ما حدث، باستعادة الإحساس أو بعضه، بفرح أو بشجن.
الذاكرة تتوسط الحدين، حيث تشكل منهلاً ورافداً، مصباً وموئلاً، في علاقة تبادلية ارتدادية مع الحدث، مع ما نتذكره ونكتبه ثم نقرؤه، وتبقى هي الأساس، فالتداعيات ستأخذ مدلولاً مختلفاً، والمطر كذلك، لو حذفنا الذاكرة.
العنوان المؤلف من ثلاث كلمات وحدين، هو عنوان القصة الأولى أيضاً، حيث المطر هو ما يدفع شخصية القصة للخروج، والخروج هنا يعني الارتداد من الواقع إلى الذاكرة. والذاكرة تبدو صافية تارة، مشوشة أخرى، لكنها لا تشكل مهرباً آمنا لشخصية القصة، ولا تعصمها من رقابة لصيقة غامضة ممن لا يمكن الهروب منه، تلك الرقابة التي تبدأ مع بداية القصة القوية بسؤال غامض لا يعرف مصدره (ماذا تفعل هنا..؟) والذي يستمر كلازمة إلى نهاية القصة، تتردد مع مفاصل الحدث، هذه اللازمة التي تتحّول إلى قول وفعل آخر مختلف مع نهاية القصة (لقد أمسكت بك).
تتضح ثنائية الذاكرة والحلم في قصة زيارة، التي تقوم على حلم يستدعي الذكريات، حيث تنبثق الذاكرة من سجف الحلم، وتنغلق بالاستيقاظ، بانتهاء الحلم، والعودة إلى خيبة الواقع، تنتهي القصة بمحاولة العودة إلى النوم تشرياً للحلم وهروباً إليه. الحلم بصيغة أخرى، حلم اليقظة هو ما تهرب إليه شخصية القصة في قصة (الهروب إلى الثلج ) والهروب يبدأ واقعاً ثم ينحو إلى حلم اليقظة الذي تسري فيه فوق المدينة، بدءاً من غرفة شخصية القصة، المدينة التي أخذت شكلاً آخر في الحلم، فتخلصت من بشاعتها وقساوتها، حلم يقظة يعززه الثلج، لكنه ينتهي إلى الاحتراق.
تتأسس قصة (المعاملة) على الذاكرة وتبدأ بهذه الجملة (ما حدث اليوم، أعادني إلى الوراء أربعين عاماً) لكنها ما تلبث أن تنحو منحى الواقعية السحرية، حيث تمحي حدود الممكن واللاممكن، ويصبح التشكيك فيما حدث وما يحدث ضرباً من الحيرة، خاصة في مجال الموت.
أما قصة (الصباح هادئ جداً) فتعبر من الواقع المؤلم، إلى الذاكرة التي ما يلبث أن يدهمها النوم، وكأنه توطئة للموت الذي تنتهي القصة به.
قصة (الصفعة) تقترب من الواقعية السحرية، حيث يسهب الكاتب في سرد وقائع شرائه لأحد الكتب الغريبة، لكن تلك الوقائع ستغدو وكأنها لم تكن في القسم الأخير من القصة، فشخصية البائع الذي اشترى منه الكتاب، ودار حديث طويل بينهما، ستظهر وكأنها ليست هي، رغم أنها نفسها من حيث الشكل والحضور، فالبائع ينكر تماما أنه باع الكتاب، أو حتى أنه كان أحد طرفي الحوار، وكأنّ ما جرى صار حلماً خاصاً بشخصية القصة فقط، لا مكان فيه للبائع ولا للواقع الملموس، حلم يستشرف فيه أنه هو من كتب الكتاب، وأن مضمون الكتاب هو سرد لوقائع حياته، وهو تفسير لما لا يفسّر، لما يمكن اعتباره حدثاً واقعاً، وفي الوقت نفسه كأنه لم يحدث أبداً، كل هذا يقوم على التشكيك، الذي يدفع شخصية القصة للتساؤل (هل أنا أحلم..؟).
في قصة (مع الخيام) يبني بطل القصة أحلام يقظته على قراءاته، خاصة تلك التي أدمن عليها للشاعر عمر الخيام، يصل به الأمر إلى حالة يتخيل فيها أو يحلم بأنه كان عمر الخيام في حيوات سابقة، ويؤكد ذلك بحلم رأى فيه عمر الخيام ينشده شعراً ويأخذ بيده شرقاً، ويؤكد له أنهما روحٌ واحدة.
لا يقتصر الأمر على هذا، بل يحرص على استمرار ذلك الحلم بعد الموت، وذلك بأن يدفن في نيسابور قرب ضريح الخيام هناك، في سعي منه لأن يتوحّد معه في التراب، كما توحّد في الروح.
تداعيات الذاكرة تشغل قصة (وقوف) بالكامل تقريباً، مفتاح هذه التداعيات امرأة تستحضر أم بطل القصة، تمضي القصة متناوبة بين الحاضر، الآن، المتمثل بزمن القص، والماضي المتمثل بما يتداعى إلى ذاكرة بطل القصة، ليكسب سمة الحضور الحالي، بين ما حدث في الماضي والحدث الذي يجري الآن، حتى يصل الزمنان المتناوبان والحدثان، إلى حالة الاندماج وذلك بانزياح الحاضر إلى الماضي كحدث، حيث طغت التداعيات على مجريات الحدث الآن. يرتّد الزمن والحدث إلى الآن الحالي في نهاية القصة، وتمضي الحياة في مسارها المعتاد.
ما يميز هذه المجموعة، هو قدرتها أن تأخذ بالمتلقي إلى خضم الحدث القصصي بكل ما يعتمل فيه، فالقارئ يتفاعل مع الحدث ومع شخصيات القصة حتى يغدو جزءاً منها.
البنية السردية للقصص، متماسكة بعيدة عن التعقيد، ذلك واضح من خلال نقلات الحدث السلسة والتي قامت على سببية منطقية غير مفتعلة. الاشتغال على التفاصيل واضح في أغلب القصص، وهو أمر أغنى النص ولم يشكل عبئاً عليه، فلم يصل لحد الترهل الذي يثقل إيقاع الحدث، ويشتت الأثر الجمالي له.
أغلب القصص بدأت من الحركة، وهذا ما جعلها تشد القارئ، وتضعه مباشرة في خضم الحدث، يمضي السرد بعدها، بإيقاع متفاوت لتنتهي القصة نهايات مختلفة، فبعضها انتهى بشكل ينهي الحدث نهائيا، وبعضها بشكل فتح بابا جديداً لاستمراره. للمكان حضور طاغ في المجموعة، والمكان في بعض القصص عام، كالحديقة التي لها حضور لافت في أغلب القصص، والحديقة هنا مكان اللامكان ومكان الأمكنة، مكان الحيرة إلى حد الضياع، ومكان الإحساس بالذات إلى حد الوجود.
الشوارع أيضا لها حضور كبير في المجموعة وهي مسارب الرحيل، ومسالك الوصول وفضاء حيوي للحدث، إضافة إلى الأمكنة الخاصة والمحددة بوضوح، البيت، السيارة، مكان العمل.
شخصيات القصص، كلها شخصيات ذات طابع إنساني ثري، وهي شخصيات عاطفية، حيث كان لعمقها العاطفي دور كبير في توليد الحدث.. قصص ذات طابع خاص، وجمالية خاصة مميزة، قصص الناس الحقيقيين في مواجهة الحياة والموت..
“تداعيات الذاكرة المطرية” مجموعة قصصية تأليف: عماد الدين إبراهيم، صدرت عن دار التكوين عام 2018.
مفيد عيسى أحمد