الحكومة تتهاوى.. وبريطانيا مهدّدة بالتفكّك
لم يخطر على بال أحد أنه بعد 29 شهراً من استفتاء بريكست، سيصبُح الحدث ليس انسحاب بريطانيا من أوروبا، بل خروج المملكة من جلدها، وتهديد هذه الخطوة لوحدتها، ولحكومة تيريزا ماي المتهالكة، وبينما ترتفع أصوات متهمة حكومة ماي “بالخضوع” و”العبودية” و”التفريط” بسيادة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، تتواصل عمليات قفز الوزراء المحافظين من مركب الحكومة الغارق، ويتوالى تقديمهم لاستقالاتهم.
فقد انهالت الاستقالات على ماي، أمس، من عدد من وزرائها، وذلك احتجاجاً على مشروع اتفاق بشأن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فاستقال كلٍّ من الوزير البريطاني المكلّف بملف الخروج من الاتحاد الأوروبي دومينيك راب، والوزير المكلّف بشؤون أيرلندا الشمالية في الحكومة البريطانية شايليش فارا، وكذلك وزيرة العمل والمعاشات إيستر مكفي، ووزيرة الدولة لشؤون “بريكست” سويلا بريفرمان.
وقالت مكفي على موقع “تويتر”: “في وقت سابق أبلغت رئيسة الوزراء أنني استقلت من وزارتها”، فيما برّر راب استقالته بعدم قدرته على دعم الشروط المقترحة لصفقة خروج بريطانيا من الكتلة الأوروبية، وقال في بيان، نشره على صفحته “تويتر”، إن رفضه للشروط المقترحة قائماً على سببين: الأول هو أن النظام التنظيمي المقترح لأيرلندا الشمالية “يمثّل تهديداً حقيقياً لسلامة وحدة أراضي المملكة المتحدة”، أما السبب الثاني فكون الاتفاق “يعطي الاتحاد الأوروبي حق النقض على قدرة بريطانيا في الانسحاب من الاتفاق”.
بدوره أفاد فارا، بأن مشروع اتفاق “بريكست” المقترح “لا يضمن سيادة واستقلال المملكة المتحدة”، وأوضح عبر “تويتر” قائلا: “عندما صوّت البريطانيون، كان الخيار بسيطاً، بين البقاء ضمن الاتحاد أو الخروج منه، لكن اتفاق بريكست يبقى المملكة المتحدة في منتصف الطريق، بين خروج ولا خروج”، وتابع: “الاتحاد الأوروبي كان واضحاً تماماً هو يفضل النهج البطيء، فقد أوضحوا أنهم لا يريدوننا أن نرحل من الاتحاد”. وتعدّ سلسلة الاستقالات الوزارية نكسة شديدة لرئيسة الوزراء، وجاءت مع قرب توقيع الاتحاد وبريطانيا على اتفاق بشأن خروج الأخيرة منه، حيث أعلن رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، عن عقد قمة استثنائية في 25 تشرين الأول الجاري لتوقيع مشروع الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه الأربعاء.
يذكر أنه عندما صوّت البريطانيون على الخروج من الاتحاد الأوروبي في حزيران 2016، كان النقاش يتركّز في معظمه على ما قد تربحه أو تخسره بريطانيا اقتصادياً ومالياً وسياسياً، من القرار، لكن ما حدث هو زيادة الانقسامات الداخلية حول “بريكست” الذي دخل مرحلة أشد حدة مع الإعلان يوم الثلاثاء، عن التوصّل إلى مسودة اتفاقية بين المفاوضين البريطانيين والأوروبيين بشأن ترتيبات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
رئيسة الوزراء البريطانية تبدو في ظل هذا الوضع كمن أسقط في يدها، فعدا الانقسامات العنيفة والاستقالات المتلاحقة التي ترمى في وجهها، تشعر أن حكومتها المنقسمة، كما منصبها، الذي وصلت إليه بفضل بريكست، مهدّدين من الخصوم المحيطين بها من كل جانب.
السيدة ماي حتى لو نجحت في الحصول على تأييد الحكومة القسري لمسودة الاتفاقية، على قاعدة “مُجبر أخاك لا بطل”، تعرف أنها ستواجه معركة أشرس للحصول على تأييد البرلمان الذي يغلي بالجدل والانقسامات، ولا تبدو الغالبية فيه مستعدة لتأييدها.
حزب العمال المعارض تحت قيادة جيريمي كوربين، لا يمكن أن يمنح ماي طوق نجاة وهو يرى فرصة لإسقاطها ودفع حزبها نحو المزيد من الاقتتال الداخلي. فالعمال يأملون في أن تؤدي أزمة الحكومة إلى انتخابات جديدة مبكرة يعتبرونها فرصة للقفز إلى السلطة، ومساعدة ماي للخروج من الورطة ليست واردة لأنها لا تخدم حساباتهم ومصلحتهم.
كما أن الجناح اليميني المؤيد لـ “بريكست” داخل حزب المحافظين لا يمكن أن يؤيد صفقة يعتبرها “خيانة” لقرار استفتاء 2016 بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ويرى في مشروع الاتفاق الذي توصلت إليه ماي مع مفاوضي الاتحاد الأوروبي “خضوعاً تاماً” من الحكومة لبروكسل، وإبقاءً لبريطانيا تحت هيمنة القرارات الأوروبية لأجل غير مسمّى في ظل الاتفاق على البقاء في الاتحاد الجمركي لتجاوز عقبة اتفاق “الجمعة الحزينة” والحدود الأيرلندية.
تيريزا ماي تنتظر شبه وحيدة على قارعة بريكست، ومنظرها يدعو للشفقة عندما تتحسس جبينها، ولا تعرف ما العمل مع حلفاء هرولوا بعيداً على يمينها، من بينهم بوريس جونسون وزير الخارجية السابق، ووصفوا صفقة الخروج من الاتحاد الأوروبي التي تروّج لها بـ”الخيانة” و”التفريط في السيادة” و”الخضوع للاتحاد الأوروبي”، ويطالبوا بعدم السماح بتمريرها، داعين أنصار “بريكست” في الحكومة إلى الاستقالة بهدف توجيه ضربة إلى ماي.
والطامة الكبرى أن الحزب الديمقراطي الوحدوي الآيرلندي، الذي وقّع اتفاقاً مع ماي بعد انتخابات العام الماضي للتصويت لها في البرلمان مقابل عدد من الالتزامات والوعود، من بينها ما هو متعلق بـ “بريكست”، يبدو اليوم مستعداً للتصويت ضد الحكومة، معلناً رفضه للصفقة التي توصّلت إليها ماي مع الاتحاد الأوروبي، على أساس أنها تهدد وضع أيرلندا الشمالية ووحدة بريطانيا. فهذا الحزب يرى أن إبقاء إقليم أيرلندا ضمن الاتحاد الجمركي الأوروبي يعني “استقلاله” نسبياً عن بقية بريطانيا ووضعه تحت القوانين الأوروبية. وحسب المتحدّث باسم الحزب فإن تيريزا ماي وافقت على خطة قد تؤدي في النهاية إلى “نهاية السوق البريطانية الموحّدة من أجل إرضاء السوق الأوروبية الموحّدة”، مشيراً إلى أن مشروع الاتفاقية الذي وافقت عليه ماي يهدّد وحدة بريطانيا.
وفي المقابل، اندفع الحزب القومي الاسكتلندي لمطالبة ماي بإعطائه صيغة تحفظ لاسكتلندا أيضاً البقاء ضمن السوق الأوروبية، خصوصاً أن غالبية الاسكتلنديين صوّتوا ضد “بريكست”، مهدّداً بإحياء الدعوة لإجراء استفتاء جديد على استقلال اسكتلندا عن بريطانيا.
معركة خروج بريطانيا من أوروبا دخلت الآن فصولاً أصعب وربما أخطر. وقد تكون حكومة ماي أولى ضحاياها، ومن المشكوك فيه أن تستطيع هذه السيدة الحفاظ على منصبها الذي تقاتل من أجله حتى النفس الأخير.
رهان ماي على المناورة وعلى الوقت لتذليل العقبات أمامها قد ينقلب عليها في ظل التشرذم داخل حزبها، وفقدانها ثقة حلفائها الأيرلنديين، وتربص حزب العمال بها لإسقاطها وإجبارها على الدعوة إلى انتخابات مبكرة تخرجها من داوننغ ستريت قبل أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.