شياطين القرن الماضي تعود في ذكرى الحرب العالمية الأولى
ترجمة: هيفاء علي
عن لوغراند سوار 17/11/2018
اجتمع قادة العالم في فرنسا لإحياء ذكرى الحرب العالمية الأولى، وقد اعتمدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الظروف المظلمة في العالم، رفعوا الأقواس، وقدموا خطابات التباكي على رعب ومأساة حرب أودت بحياة أكثر من 16 مليون شخص. لكن تصريحاتهم حول “المآسي” و”الانتحار” لا يمكن أن تخفي حقيقة أنهم جميعاً يشاركون بنشاط في التحضيرات لنزاع عسكري عالمي جديد.
لم يشعر ترامب، كالعادة، بالحاجة إلى إخفاء تعطشه لإراقة الدماء. كان كلامه في المقبرة الأمريكية في سورسني، خارج باريس، شذوذاً شوفينياً، حيث أشاد بـ “المحاربين العظام” الذين قاتلوا في الجحيم لتغيير مسار الحرب، وأثنى على مشاة البحرية الأمريكية “الشرسون”، الذين أرعبوا الجنود الألمان المنعوتين بـ “كلاب جهنم”.
على عكس ميركل وماكرون، لم يقدم الرئيس الأمريكي أدنى تنازلات للفكرة المقبولة عالمياً منذ سقوط الرايخ الثالث، بأن الحرب العالمية الأولى كانت خطأ فادحاً، حيث تم ذبح ملايين الضحايا بسبب جهل الجنرالات وجشع السياسيين والصناعيين. بل وصف تلك الحرب بأنها كانت الكفاح “النبيل” لتحقيق “السلام” والدفاع عن “الحضارة”.
خطابات كل من ماكرون وميركل خانت نفس المشاعر الدامية التي غطتها ببساطة طبقة من النفاق. وكان خطاب ماكرون بمثابة إدانة “للقومية”، في حين استنكرت ميركل الحرب واصفةً إياها بأنها “متاهة بشعة من معارك بلا رحمة وسفك الدماء الناجم عن الغطرسة الوطنية والفخر العسكري”.
لكن خطاب ماكرون كان، في محتواه، احتفالاً بالأكاذيب العظيمة التي انتشرت من قبل الحركة الفاشية الألمانية- الفرنسية والتي كانت “الحرب العظمى” بمثابة لحظة الوحدة الوطنية فيها. من جانبها، استحضرت أنجيلا ميركل “أهوال” الحرب العالمية الأولى ودعت ألمانيا إلى إنهاء “عزلتها” من خلال أن تصبح قوة عظمى. وقالت: “أظهرت لنا الحرب العالمية الأولى أي نوع من الانعزالية يمكن أن يقودنا إلى ذلك. وإذا لم تكن العزلة حلاً قبل 100 عام، فكيف يمكن أن تكون اليوم”؟.
يا له من كذب سخيف! جميع كتب التاريخ في السنة الأولى توضح أن الحرب لم تكن بسبب “الانعزالية” الألمانية، ولكن بسبب رغبة القيصر والمستشار في الحصول على ما سماه ويليام الثاني “مكان في الشمس لألمانيا”، وهذا يعني، الممتلكات الاستعمارية على حساب منافسيها الذين سبقوها في الوصول إلى الساحة العالمية.
على الضفة الأخرى للراين، بدت مشاعر الطبقات الحاكمة بنفس الدرجة من الولع بالحروب. فعقب خطاب ماكرون، دعا وزير المالية الفرنسي، برونو لومير، إلى تشكيل “امبراطورية أوروبية” قادرة على منافسة الولايات المتحدة والصين عسكرياً واقتصادياً، وبما أن الشعوب الأوروبية عانت من أهوال الحربين العالميتين، فقد وجدت هذا الخطاب حول الامبراطورية “غير جذاب.. في عالم الغد، لا يمكن لأوروبا أن تتردد في تحريك سلطتها فقد تعب الأوروبيون وسئموا من الهذيان”. إذ يتم التعبير عن هذه المشاعر العسكرية والفاشية بالكلمات والأفعال معاً.
فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدعم من المعارضة الديمقراطية التي تعمل إلى حد كبير كمنطقة عازلة لتضفي الشرعية لهجومها ضد الديمقراطية، شرع في أكبر حشد عسكري منذ الحرب الباردة بانسحابه من معاهدة القوات النووية المتوسطة المدى المبرمة مع روسيا، وتوسيعه ترسانة الولايات المتحدة النووية بشكل كبير: حيث بدأ في نشر 15 ألف جندي على الأراضي الأمريكية، مطالباً بالحق في إلغاء التعديلات الدستورية بموجب مرسوم تنفيذي، وبدأ ببناء معسكرات اعتقال يمكن أن تضم عشرات الآلاف من الأشخاص.
من جانبه دعا ماكرون، الذي سعى إلى إعادة تسليح عسكرية كبيرة في بلاده، إلى إنشاء “جيش أوروبي” لمواجهة الولايات المتحدة والصين، وسيتم تمويله من خلال سياسات التقشف المناهضة للعمال من قبل حكومته.
أما ميركل فإنها ترأس حكومة ائتلافية كبرى مكرسة لإعادة التسلح العسكري وفرض السلطة في الخارج. كما تشرف على بناء مخيمات لإيواء اللاجئين العزل، و حكومتها بؤرة للفاشيين على رأسهم هانز جورج ماسين، مدير الاستخبارات الذي تنحّى مؤخراً، دافع عن المشاغبين النازيين الجدد الذين هاجموا اليهود والأجانب. وبالتعاون مع حزب “البديل لألمانيا”، قام الفاشي الجديد بصياغة تقرير يضع منتقدي الرأسمالية، بما في ذلك حزب المساواة الاشتراكية، تحت المراقبة بوصفهم “متطرفين يساريين”.
هكذا، فان الدافع الحالي للقوى العظمى نحو الصراعات العسكرية متجذر في نفس التناقضات الأساسية للرأسمالية بين الاقتصاد العالمي ونظام الدولة القومية القديم، وبين الإنتاج الاجتماعي والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي أدت إلى حربين عالميتين في القرن العشرين.
كما يغذيها تفاقم التوترات السياسية والاجتماعية الداخلية في الدول الامبريالية الكبرى. ذلك أن حكومات ماكرون وترامب وميركل مكروهة من قبل شعوبها باعتبارها أدوات مباشرة لأقلية القلة المالية الفاسدة. هذه الحكومات ترى في الحرب ذريعة ليس فقط لاستخدام القمع البوليسي ضد خصومها فحسب، بل أيضاً لتعزيز القوى اليمينية المتطرفة لخلق أساس لسياساتها العسكرية وسياسات التقشف التي تخدمها كضربات قاصمة ضد نضال الطبقة العاملة المتزايدة.
وكما حلل ديفيد نورث، رئيس مجلس تحرير موقع الويب الاشتراكي العالمي، فقد عادت جميع شياطين القرن الماضي إلى عصرنا الراهن، لكن هذا يعني أن المهام التي تواجه البشرية تبقى هي نفسها. انتهت مذبحة الحرب العالمية الأولى في ثورتين: في روسيا وألمانيا ولكن تم خنق كل منهما وهزيمة هذه الثورات أعادت شبح الحرب العالمية.
اليوم وكما في السابق تشكل الطبقة العاملة الدولية، المجهزة ببرنامج الأممية الاشتراكية، الشفرة المضادة للحرب العالمية.. إنه الخوف من هذه القوة الاجتماعية الواسعة والقوية الذي يدفع البرجوازية إلى الحرب والدكتاتورية، لذلك يجب تعبئة هذه القوة ودعمها بكافة السبل لمعارضة عودة البربرية الامبريالية.