تفاصيل أيمن زيدان.. صورة الفنان في شبابه
بعد مجموعتيه القصصيتين اللتين صدرتا تباعاً وهما (أوجاع، وليلة رمادية) صدر للفنان والنجم أيمن زيدان عمله الثالث بعنوان إيحائي هو (تفاصيل) ليأخذنا عبرها إلى ما يشبه السيرة الذاتية التي يقطّرها منذ لحظة ولادته، ولعله في ميثاقه الأوتوبيوغرافي، سينفتح على ما تبوح به ذاته وما تحاوله من رسم ملامح أزمنة وأمكنة وشخوص كان لها الدور الأبرز في تأثيث ذاكرته، إذ الذاكرة هنا تعمل بتداع محسوب لتبث مشهدياتها وعبر 36 مشهداً يؤلف بها تفاصيل تلك الأمكنة والأزمنة المحلوم بها، والأكثر استدعاءً للحنين منذ لحظة الولادة إلى دوره مدرباً في المسرح الحر، ولعل هذا التأسيس الضروري الذي يمتح من الذاكرة القريبة والبعيدة وفي المشهديات المتصلة المنفصلة، وفي السطور الرشيقة، هو العتبة لقراءة عوالم أيمن زيدان إنساناً، فضلاً عن تلك المهادات الضرورية التي كونت شخصيته الفنية انطلاقاً من إرهاصات وهواجس ظلت تعتمل في وجدانه منذ أن اختار أن يكون ممثلاً مسرحياً، ويقوم بعروضه الأولى في قريته الوادعة (الرحيبة).
وإذا كنا هنا أقرب إلى صورة الفنان في شبابه، فنحن إزاء تلك التجليات المتدفقة والتي تعني سيرتان بآن معاً: السيرة الذاتية والسيرة الموضوعية، واللتان ستفيضان من متخيلهما الواقعي إلى ما يعني تكوين شخصية ستكون لها فرادة وأسلوبية بعينهما، أي بما يتصادى من خلالهما في وعي الفنان/الإنسان، وعلى الأرجح فإن تلك التفاصيل برشاقتها واختزالها، هي كناية عن رحلة ستبدأ من الطفولة المبكرة إلى لحظة فارقة في حياة الفنان أيمن زيدان، بانكشاف تلك الأزمنة البعيدة القريبة، التي ألفت فيها ذاكرته محكيات سردية باذخة في تأليفها، وهي تتنكب الطقوس الاجتماعية وصولاً إلى نماذج الشخصيات التي اختارها بعناية، منذ صعدنا معه في باص أبو إلياس، لتنكشف أمامنا الأمكنة والفضاءات الأخرى المحايثة، انكشافا سيأخذنا بالضرورة إلى ما يشبه فصول رواية سيرية مختزلة، يتعاضد فيها الواقع والمتخيل في صور سردية، بؤرها المشعة من العائلة إلى الأصدقاء وسواهم، ما يؤسس لدى المتلقي وهو يدلف إلى ذاكرة الشخوص، وهي مستلة من القاع الاجتماعي بمحكياته المدهشة، رؤيا سوف تجد كثافتها في حكاية الفراشات والضوء، والفرح المسروق، وقصص الحب العابرة لأزمنتها، قبل أن تتجسد في (كارمن) تلك المرأة ذات الوجه الطفولي التي كانت تصغر أيمن زيدان بعام واحد، والتي دخلت (المسرح الحر) للمشاركة في عرض مسرحي في المحافظات السورية، ولعل أشهى ما يفيض عن ذاكرة الحنين هو تفاصيل الرحلة من (دمشق إلى الرحيبة)، وبكل أبعادها السيكولوجية، وكيف تنفتح عين الرائي والكاتب العليم إلى ما يمكن أن نفتتح به تلك المدونة التي تعرفنا من خلالها كيف طارد (شيطان التمثيل) أيمن زيدان، ليصبح هو المسرحي، انطلاقاً من محاولاته تأسيس فرقة مسرحية تغذي اهتمامه بالتمثيل، منذ محاولاته الهروب من ثانوية جودت الهاشمي، بل في تلك المحاولات –أثناء الدراسة- لتتخلق شخصيته الأخرى، في تفاصيل سنعبر فيها إلى المشهديات الاجتماعية والاقتصادية والعاطفية، وانكسار دفء الأحلام، وبرهات الانتظار، بل نماذجه الاجتماعية التي صوّرها بعناية، أبطال على مسرح حكايته من لحم الواقع وفتنة المتخيل، وفي تفاصيله يتطير أيمن زيدان إلى بلاغة الحالة، وبلاغة الفكرة في سياقها وصيرورتها ومسارها، لا سيما عبر ما يبثه مضمر حكاياته، من محاولات الوقوف على تاريخ ما لشخصيات بعينها لا سيما الثرية (للأسف أدمن أولئك البسطاء عاداتهم المقيتة في صياغة تاريخ مزيف، لكل الذين بدأت ملامح الثراء تتقحم حياتهم، من أصحاب مقالع الرخام أو تجار الطير الحر).
ثمة ذهاب إلى ما يعني الذاكرة الفردية والجمعية، لكن الأدل في التفاصيل، وذلك المعنى التي يؤلف رحلة أيمن زيدان (ستون عاماً لم تمنحه سوى الخيبة ونتفاً من الفرح، وأخيراً كللها بما حدث معه).
وهكذا نذهب في قراءة عوالم أيمن زيدان بمكوناتها وعتباتها، قراءة في شرط إنساني، على الأرجح يأخذنا إلى المزيد من التأويل بأفعال الفن ومرجعياته، وما يمكن لنا أن نشتق –من خلالها- غير بعد للصورة وظلالها المضيئة، أي صورة الفنان في طفولته وشبابه، لعلها الصورة المنشودة والأكثر تطلباً للحلم، ومكابدة تحققه، إذ إن الإنسان كائن حالم بالضرورة.
“تفاصيل”.. صادرة عن مؤسسة سوريانا للإعلام والإنتاج الفني- الطبعة الأولى دمشق 2018
أحمد علي هلال