تونس تتجّه لمواجهة مباشرة بين اتحاد الشغل والحكومة
تونس- البعث- محمد بوعود:
قُرابة المئة بالمئة نسبة نجاح الإضراب العام في الوظيفة العمومية الذي شنّته منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل في تونس أمس الخميس، والذي جاء بناء على مطالبات متكررة بالزيادة في أجور الموظفين والعمال، حتى يتمكنوا من مجاراة نسق الارتفاع الجنوني للأسعار، قابلته الحكومة بتجاهل تام، وقال رئيسها يوسف الشاهد في آخر لقاء له قبل الإضراب مع الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطّبوبي: “إن الحكومة ليس لديها اقتراحات للنقاش، وإن أطرافاً خارجية ومؤسسات مالية عالمية تضغط علينا كي لا نرفع في الأجور”، في إشارة إلى السيدة كريستين لاغارد، رئيسة صندوق النقدي الدولي الذي ارتبطت به الحكومة التونسية في قرض على أقساط، قسط كل ثلاثة أشهر، وهو ما مكّنه من فرض شروطه، وإبداء رأيه سواء في حجم الأجور أو وقف الانتدابات في الوظيفة العمومية، وحتى في تسريح عدد مهم من الموظفين، كي يتمكّن حسب قوله من إعادة هيكلة وإصلاح الاقتصاد التونسي.
هذا الكلام الذي نقله عنه نور الدين الطبوبي، أثار غضباً واستياء بالغين في أوساط الرأي العام النقابي والسياسي، وحوّل في الليلة السابقة للإضراب، شعاراته، من “الزيادة في الشهرية” إلى ” الدفاع عن السيادة الوطنية” في رفض واضح وصريح لإملاءات صندوق النقد الدولي، وإدانة ظاهرة لانصياع الحكومة التونسية لها.
وهو شعار مكّن من مزيد رصّ صفوف الموظفين والعمال وراء الاتحاد، وجعل الساحة المقابلة لمجلس نواب الشعب في ضاحية باردو، غرب العاصمة، تعجّ أمس بأكثر من عشرين ألف متظاهر، جاؤوا من مختلف القطاعات والإدارات والمؤسسات، دفاعاً عن حقّهم في أجور تضمن لهم حياة كريمة، حسب الشعارات المرفوعة، وتتماشى مع الأسعار المرتفعة باضطراد، ومع الاحتكار، والتهريب، وتسيّب مسالك التوزيع والسيطرة عليها من قبل مافيات نهب المال العام، وغيرها من الخروقات الاقتصادية الناتجة بالخصوص عن عدم صرامة الأجهزة الرقابية الحكومية في ممارسة دورها، وإلى انتشار الرشوة والمحسوبية في الكثير من قطاعات التجارة والإنتاج والتوزيع بالجملة والتفصيل.
وكانت الحكومة التونسية قد تمكّنت الشهر الماضي من تجنّب إضراب عام آخر كان مبرمجاً للقطاع العام والمنشآت والدواوين، يوم 24 تشرين الأول الماضي، بعد أن قدّمت تنازلات ورضخت لمطالب الاتحاد في تمكين موظفي القطاع العام من زيادة وصلت إلى حدود ستة في المئة.
ويبدو أن حجم التأجير وقيمة الأجرة في الوظيفة العمومية قد منعتها من تقديم أي تنازلات أو إقرار أي زيادة للموظفين العموميين على غرار نظرائهم في القطاع العام والمنشآت والدواوين، ويبلغ عدد الموظفين العموميين في تونس حسب آخر إحصاء السنة الماضية حوالي ستمئة وسبعين ألف موظف.
ولعلّ ما شدّ الانتباه في الإضراب العام للوظيفة العمومية – وهو ثاني أكبر إضراب عام تشهده تونس منذ أحداث 26 كانون الثاني 1978، حيث سقط أكثر من أربعمئة قتيل برصاص الجيش والحرس، فيما سُمّي بالخميس الأسود – هو أن خميس هذه السنة مرّ في كنف الهدوء التام، ولم تسجّل فيه حوادث تُذكر، رغم أن التحشيد له فاق كل النسب المتوقّعة، سواء في تونس العاصمة أو في سائر المدن وعواصم الولايات.
وقد خطب الأمين العام لاتحاد الشغل في المحتشدين أمام مبنى البرلمان قائلاً: إن المعركة مع الحكومة قد تحوّلت إلى معركة مع صناديق النهب الدولي، ومع أجندات مؤسسات رأس المال العالمي الباحث عن الربح حتى على حساب قوت العمال، مضيفاً إن للاتحاد أوراقاً أخرى سيلعبها في الوقت المناسب، وقال أيضاً: إن الإضراب العام ليس نهاية الطريق، بل هو محطة هامة في طريق طويلة قد تمتد إلى أعنف وأقسى مما يتصوّر البعض، محذّراً الحكومة من مغبّة تجاهل طلبات الشغالين والموظفين والإجراء، داعياً في نفس الوقت الجميع إلى الالتزام بالمصلحة الوطنية العليا، وداعياً الحكومة إلى مزيد الحوار وإلى قبول الرأي المخالف والاستماع الى طلبات النقابات والمنظمات.
على الصعيد السياسي، لاحظ مراقبون في تونس أن إضراب يوم الخميس تحوّل بالفعل إلى محطّة فرز سياسي، قد تدشّن مرحلة جديدة من الاستقطاب الثنائي، بين فريق انضم إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، وسانده بكل قوة، سواء من خلال حضور نوابه وإطاراته وكوادره إلى ساحة الإضراب، وكذلك من خلال البيانات المساندة والدعم التي صدرت عن أحزاب عديدة، كالحزب الجمهوري وآفاق تونس، والجبهة الشعبية وكل أحزاب الطيف اليساري والقومي التقدمي، وحتى عن الحزب الحاكم سابقاً، حزب نداء تونس وما يمثله ذلك من رمزية، مفادها أن حزب رئيس الجمهورية يقف مع الاتحاد، حيث حضر قياديوه ونوابه بكثافة أمام مبنى البرلمان، وسبق أن أصدر بياناً يوم الأربعاء، اعتبر شديد اللهجة مقارنة ببياناته سابقاً حين كان يمثّل السلطة، والتي خرج منها مؤخراً بشكل غريب وغير مفهوم.
في المقابل اصطفّت كل من حركة النهضة وحزب مشروع تونس وكتلة الائتلاف الوطني الموالية للشاهد، إلى جانب الحكومة، ورفض ممثلوها الإمضاء على بيان دعت له باقي الكتل النيابية، وأرادت إمضاءه باسم مجلس نواب الشعب، وهو ما يترجم وقوفها نهائياً إلى جانب الحكومة في هذه المعركة، رغم أن حركة النهضة أصدرت بياناً دعت فيه إلى مزيد التحاور، وإلى ضبط النفس، وتغليب مصلحة الوطن، ومراعاة الاقتصاد الوطني الذي قالت: إنه لا يتحمّل مزيداً من الهزات، في إشارة خفية إلى أن الإضراب مشروع، لكنه يضرّ باقتصاد البلاد حسب منطوق البيان.
حركة النهضة، التي تُعتبر الحزب الحاكم حالياً باعتبارها الداعم الرسمي للسيد يوسف الشاهد، تحمّلت قسطاً وافراً من غضب المحتجين المضربين، حيث انهالت عليها الشعارات المنددة بها وبسياساتها، ورفعت كثيراً من الشعارات والأهازيج ضدّ رئيسها راشد الغنوشي، الذي وصفه بعض المضربين في ساحة باردو بالسفّاح و”قتّال الأرواح”، في إشارة إلى احتمال تورّط الحركة مقتل الشهيدين بلعيد والبراهمي، وما يُثار حولها من أسئلة تخصّ الجهاز السريّ التابع لها، وكذلك ما أثير أيضاً من ملفات مؤخراً تتعلق بإتلاف وثائق تدينها من وزارة الداخلية وإخفاء شهود وغيرها.
والثابت هنا لدى المتابعين للشأن السياسي، هو أن الإضراب العام في الوظيفة العمومية الذي شلّ كل الإدارات في تونس بما فيها مصالح رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ومجلس نواب الشعب والوزارات، يُعتبر مرحلة مفصلية في صراع قد يتطوّر أكثر، ويأخذ منعرجات جديدة في الأيام القريبة القادمة، خاصة وأن اتحاد الشغل يعقد غداً السبت، اجتماعاً لهيئته الإدارية، من المنتظر أن تصدر عنه قرارات هامة تخصّ المواجهة التي أصبحت مفتوحة مع الحكومة على كل الاحتمالات.