ثقافةصحيفة البعث

“هيپي” كويلو..سيرة حياة أم استنساخ أفكار

تحت عنوان “هيپي”صدرت الطبعة العربية من رواية الأديب البرازيلي الأكثر قراءة وانتشارا في العالم باولو كويلّو،ترجمة رنا الصيفي وتدقيق روحي طعمة.

وقبل الولوج إلى مضمون الرّواية لابد أن نعرف أنَّ كويلّو كان، كما أشيع عنه، “هيبيا”في مرحلة شبابه، ولأنّه يقرّ في مدخل النّص الجديد بقوله: “الرّواية نابعة من تجاربي الشخصية، عدلت، أحيانا، ترتيب الأحداث وأسماء الأشخاص وبعض تفاصيلهم، وكان عليَّ أن أوجز بعض المشاهد، لكن ما يلي حقيقي برمّته، آثرت استعمال ضمير الغائب للشخصيات كلها مانحا أيّاها أصواتا استثنائية تصف حياتها”، فإنّنا لابد وأن نتوقف عند معنى الهيپي، لكي نستطيع قراءة وفهم هذا النّص.

عرفت الهيبية أو الهيبز كظاهرة اجتماعية وحركة شبابية في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومنها انتشرت غالى معظم البلدان الأوروبية، وهي حركة مناهضة للقيم الرأسمالية، راجت بداية بين طلاب الجامعات كحالة تمرد واحتجاج على سطوة الكبار، ودعوة إلى عالم تسوده الحرية والمساواة والحب والسلام، وقد ميز هؤلاء أنفسهم بإطالة الشعر وارتداء الملابس الفضفاضة والرثة، والسير في الأصقاع على غير هدى، كتعبير عن قربهم من الطبيعة، ووجدوا من المخدرات والجنس والموسيقا (الروك) متنفسا لهم وأسلوبا للتمرد على القيم.

وقد وصلت هذه الحركة إلى أوج انتشارها أيام فرقة الخنافس الهيبية “بيتلز” التي استقطبت ملايين الشباب الغربي، وعرف عن الشاعر ألن غينسبرغ المعروف بكتاباته المعبرة عن احباطات العالم، بأنه أب الهيبية، لكنّ هذه الجماعات بدأت بالاضمحلال شيئا فشيئا في ثمانينيات القرن المنصرم، وانضم بعضهم إلى حركات سياسية أكثر تنظيما للعمل من أجل قضايا إنسانية محددة، فظهرت جماعات مناهضة للتسلح النووي، وأخرى  للعولمة والعنف والحروب.

بعد هذا التعريف يمكننا القول إن كويلّو آثر في هذه الرواية العودة إلى سبعينيات القرن الماضي ليحكي لنا عن تجربته مع الهيبية، عندما كان ميدان “البيكاديللي” في لندن، وساحة”السد دام” في امستردام الهولندية، هما مركز العالم، وهناك يتجمع الهيبيين الذين أصبحوا منبوذين اجتماعيا بسبب حرية حياتهم، ومنهم الشاب البرازيلي ذو الشعر الطويل باولو، الذي وقبل أن يصل إلى أمستردام باحثا عن معنى أعمق لروحه،عاش حياة التشرد مع حبيبته التي تكبره بعشر سنوات،وسافر على قطار الموت من البرازيل إلى بوليفيا، ثم مشيا نحو شعوب الاينكا المفقودة، وسنتياغو في تشيلي، وحينما وصل إلى أمستردام مارا بروما وجد”كارلا” الفتاة الهولندية الهيبية في انتظاره، تلك الفتاة ابنة الثلاث والعشرين سنة التي أخبرتها العرّافة “ليلى” بأنّها ستلتقي الشاب الذي سيرافقها عبر طريق هيبية من هولندا إلى كاتماندو في نيبال على متن باص يقطع بلدان مختلفة.

“كارلا” عندما قررت ترك منزل والديها والسكن لوحدها تتعرف على بحار من بومباي يعرِّفها على التصوف الشرقي، ومنذ ذلك الحين أخذت تفكر بأنَّ قدرها في الحياة كان الرحيل بعيدا والعيش في كهف في هيمالايا، مؤمنة بأن الآلهة ستظهر لها وتكلمها يوما، وأنها ستتحرر من بيئتها الحالية التي وجدت فيها ضجرا قاتلا.

في ساحة دام يتعرف باولو على كارلا وهنا يتوقف كويلو مطولا ليصف طبيعة الحياة في هذه المدينة ذلك الحين، حياة الهيبيين والمخدرات والعلاقات الحرة، وعندما تتعرف كارلا إلى باولو تقنعه بحجز تذكرة باص يصل إلى كاتماندو الملقبة بـ “شانغريلا” أي وادي الجنة، وكان قد قرأ عن الدراويش فيه الذين يرقصون ويدورون وهم يشرعون أنفسهم للأرواح.

في الباص كانوا عشرين راكبا تتفاوت أعمارهم بين قاصرين فارين من منازلهم، ومن هم اكبر سنا، مع سائقين انكليزي وهندي، وخلال الرحلة يفترش الركاب العراء ويستحمون بالأنهار، وتدور بينهم أحاديث عن الوجود والفلسفة والسياسة، نتعرف على حكاية كل واحد منهم بدءا من السائق البريطاني مايكل الذي حصل على شهادة الطب وسافر إالى دول فقيرة يساعد المرضى والمنكوبين، وحلم أن يعيش كالمسيح إلى أن انتهى به الحال سائقا في شركة سفريات.

والرجل الفرنسي السبعيني مع ابنته ماري طالبة العلوم السياسية، ومن خلالهما يعرج الكاتب على الاضطرابات الطلابية المناهضة لشارل ديغول عام ١٩٦٨. والحرب الانكليزية في ايرلندا من خلال الشاب الايرلندي ريان وصديقته ميرث، وكذلك الاستعمار البريطاني للهند وقصة السائق الثاني راهول، واضطرابات الأردن في أيلول الأسود كما سمي.

عندما تصل الرحلة إلى اسطنبول يعلن السائق المكوث فيها لأسبوع، وهناك يتعرف باولو إلى الدراويش ويقرر البقاء في المدينة لتعلّم ما احتاج إلى تعلّمه، تاركا الباقين يكملون الطريق نحو وجهتهم ومعهم كارلا التي “عانقته دون أن تنبس ببنت شفة، لكنّها تمكنت من الشعور بحبه كما لو أنه تجسد نورا يتعاظم شدة كشمس صباح تنير الجبال أولا، فالمدن، فالسهول، فالبحر”.

وفي العام ٢٠٠٥ عندما يصبح باولو كاتبا ذائع الصيت يقصد أمستردام لحضور مؤتمر، وخلاله يروي جانبا من القصة، لكنه في لحظة من اللحظات لا يتمكن من ردع نفسه ويسأل: كارلا، أنت هنا..؟ لكن لا احد يجيب.

في هذه الرواية لا يقدم كويلو جديدا يثير الدهشة، سواء بالأسلوب أو الأفكار لأنه يجتر الفكرة ذاتها التي سيطرت على أكثر أعماله، وهي البحث عن الذات والسمو الروحي خارج الحدود جغرافيا، فهو في رواية “ألف” مثلا يقوم برحلة إلى أفريقيا للبحث عن الارتقاء الروحي واكتشاف النفس ويلتقي بعازفة الكمان هلال ويبدآن معا رحلة صوفية عبر الزمن والأمكنة، ويسافران في طريق يُعلّم المحبة والمغفرة والشجاعة. وفي “الزهير” أيضا يبحث كاتب عن زوجته، التي هجرته دون سبب، في أوروبا وشرق آسيا عابرا الهضاب والصحاري. وفي “بريدا” امرأة تبحث عن المعرفة، وتستهويها طقوس السحر والغرابة لتكتشف شيئا من أسرار الحياة. وفي “إحدى عشرة دقيقة” نتعرف على ماريا الفتاة البرازيلية التي ترحل إلى سويسرا وتضطر للعمل مموسا في احد الملاهي لكي تحقق حلمها بجمع الثروة والعودة إلى الوطن. وحتى الرواية الأشهر لكويلو “الخيميائي” التي نقلته، كروائي، خارج الحدود فهو يتناول فيها حكاية راع أندلسي يترك قطيعة ليبحث عن حلمه بالعثور على كنز مطمور قرب أهرامات مصر.

وهكذا نجد أن كويلو مسكون بالبحث والترحال والتصوف، والغوص في الثقافات الأخرى منقبا عن كنوز يجد فيها القارئ ضالته الروحية والنفسية،وهو بهذا لا يعر اهتماما للابتكار في الأسلوب والتجديد في الرواية، أو الخروج من التأطير، بقدر حرصه على مخاطبة الجيل الشاب، غرائزيا وروحيا، في أيّ مكان من هذا العالم الدائري، والعزف على وتر حرية العلاقات الروحية والجسدية بين الأجيال الشابة.

آصف ابراهيم