“الآداب والفنون… والارتقاء بالثقافة”في مكتبة الأسد
شكلت الثقافة في التاريخ البشري نسيجاً جوهرياً في تكوين الضمير الفكري والأخلاقي والاجتماعي والوطني للمجتمع، ذلك الضمير الوثاب على دروب الرقي الإنساني، معبراً عن نشدانه قيم الحق والعدل والمساواة والكرامة واحترام المعرفة وواجب التفكير. وعمقت الثقافة خطوط تجليها في الآداب والفنون، وفتحت أمام النشاط العلمي والمادي للمجتمع آفاق الروح، دافعة عربات نورها المنطلقة في شعاب الفنون والتقاليد الشعبية، والنظم العلمية والاجتماعية لتألق العمارة والتصوير وكل مايتصل بنهضة الإنسان والمجتمع من سبل طرائق التفكير.
وتأتي ندوة “الآداب والفنون والارتقاء بالثقافة” بمحاورها المتنوعة والمتعددة ملبية حاجات معرفية متشعبة، تلبية تراها ثقافتنا الوطنية واجباً ملحاً في تعزيز قيمها وهويتها وهي تشهد مرحلة حاسمة من مراحل النصر الوطني المؤزر على الإرهاب وقيمه وأدواته، وتحدث معاون وزير الثقافة توفيق الإمام عن سورية كواحدة من المنارات القليلة التي بدأت تشع باكراً بأنوار الثقافة، فمن أرضها انطلقت أول عمليات الزراعة وتربية الماشية وأول المدن وأولى المحاولات الإنسانية لابتكار أبجدية تسهل نقل الأفكار بين الناس وتحفظها من الضياع، وعلى الأرض السورية كانت تتلاقى طرق التجارة القديمة رابطة ما بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوربا، بما فيها الطريق الأشهر طريق الحرير، فعند سورية يتقاطع التاريخ وتتقاطع الجغرافيا، ولهذا ليس غريباً أن تظل دائماً حلماً تتقاطع عنده أطماع الطامعين وهدفاً يسعى لتحطيمه كل الظلاميين كارهي الثقافة والحضارة.
نعم، لدينا عمل ضخم في مؤسساتنا الثقافية والإعلامية والتعليمية لترسيخ وتأصيل الفكر الإنساني المتنور المتحرر من الأوهام، وتعميق كل ما من شأنه أن يأخذ بيدنا إلى عالم أرحب وأكثر إشراقاً.
صورة الواقع
ويأتي النشاط الثقافي المتنوع والجاد معززاً ثقافة المواطنة والانتماء من أجل مستقبل سورية القادم، ويمكن للرواية أن تكون ناقلاً للواقع، وأن تكون السجل التاريخي للحياة، وتحت عنوان “الآداب والثقافة” بدأت الجلسة الأولى من المحور الأول في الندوة ترأسها الناقد سعد القاسم، وبدأها د. إسماعيل مروة متحدثاً:
ليس المقصود بالرواية والواقع الرواية الواقعية مذهباً فكرياً، وإنما المقصود الحديث عن الرواية بوصفها تسجل الواقع، وتشكل مصدراً تاريخياً يقدم صورة لا يستطيع المؤرخ أن يقدمها عادة بسبب انحياز المؤرخ كما ترصد كتب التاريخ والتراجم، فالرواية سجل للواقع وأحداثه وتختلط في هذه الحالة الرؤيتان الفكرية والفنية بما يؤثر سلباً على القيمة الفنية لصالح الفكر والأيديولوجيا. والبحث يرصد حالة الحرب التي تجري في سورية منذ سنوات والآليات التي تعاطت فيها الرواية مع الأحداث، خاصة مع بروز أسماء كثيرة قدمت مطبوعات تحت مسمى الرواية لتسجل موقفاً موافقاً أو معارضاً مما يجري على أرض الواقع. بحث يمزج بين الفكر والفن في الفن الروائي.
لحظة للأبد
وثمة خرافتان تحاولان إحكام الحصار على القصة القصيرة بغية تهميشها الأولى تتعلق بماضي القصة والثانية تتعلق بمستقبلها، وعن القصة القصيرة تحدث د.سمير عدنان المطرود نيابة عن القاص حسن م يوسف فقال:
ثمة أصوات نقدية تقول بعجز القصة القصيرة عن مجاراة التحولات العميقة التي يشهدها العالم باعتبار أنها “حكاية مغلقة ذات نواة مركزية صلبة”، ونحن نعيش اليوم حالة انفتاح قصوى تكرسها الثورة العلمية التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي في كل المجالات وعلى مختلف الصعد، فكيف يستطيع فن مغلق كالقصة القصيرة أن يستمر في التعبير عن أزمنة مفتوحة حد الانفلات يكاد إيقاع التطور فيها يكون أسرع من الخيال؟
وثمة أصوات نقدية أخرى أكثر تشاؤماً ترى أن فن القصة القصيرة قد مات انقضى عصره وأن الأصوات التي ماتزال تدافع عن هذا الفن محكومة بالانقراض.
تطمح هذه المقاربة للوقوف عند حالة التراجع التي تعيشها الكلمة المكتوبة عموماً لصالح الصورة المتحركة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تكرس تفتت اللحظة الإنسانية إلى نبضات خاطفة، كما تتطرق لواقع القصة القصيرة والصعوبات التي تواجهها متمثلة بتخلي معظم الصحف والمجلات عن نشرها وعدم احتفاء النقاد الأدبيين بها على قلتهم. وتخلص هذه المقاربة إلى أن فن القصة القصيرة ما يزال حاضراً بقوة وقادراً على لعب دوره الجمالي بحيوية رغم انزياح الضوء عنه لصالح فن الرواية ورغم طغيان الفنون المرئية على حساب الفنون المقروءة.
لقد حكمت مؤسساتنا الإعلامية والثقافية على فن القصة القصيرة الأصيل الجميل بالموت إهمالاً، لذا فإن أية مبادرة تنعش هذا الفن الفريد الصعب تدخل في سياق معركة الدفاع عن سورية الغنية باختلافها وتنوعها.
الشعر منبراً للقيم
كما يعنى البحث بتوصيف نماذج من تجلي القيم الإنسانية في قصائد عدد من الشعراء العرب منذ القديم وصولاً إلى وقتنا الراهن، وعن الشعر كمنبر للقيم تحدث د.راتب سكر قائلاً:
إن تحليل مكونات الشعر الفنية ووظائفها الدلالية يساهم في إثراء القيم الإنسانية ومؤثراتها الثقافية والاجتماعية والمعرفية. ومن الأمثلة المميزة في هذا المضمار قصيدة الشاعر حسان عطوان في رثاء الشاعر الإسباني فيديركر غارثيا لوركا، وقصيدة الشاعر محمد منذر لطفي “هيروشيما” من القصائد المعبرة في هذا المضمار عن قيم إنسانية متصلة بالإخاء الإنساني وحاجاته الملحة إلى الحب والتسامح والسلام، وإن تحليل التجلي الفني لهذه القيم في الشعر يعزز دورها في منح الشعر وظائف ثقافية ومعرفية طليعية إضافية، تفيد في تعميق دراسة أدبنا العربي المعاصر ومكوناته الفاعلة وغاياته الفنية الجمالية والاجتماعية والمعرفية من جهة أخرى.
كنوز العلم
ولأن التراث ذاكرة الأمة وقطعة من وجدانها ومعلم من معالم هويتها وكيانها وركن باذخ من أركان ثقافتها، تحدث د.محمد قاسم عن “التوثيق أمانة للأجيال” إذ يرى أن توثيق التراث وإيجاد الأسباب العلمية واصطناع الوسائل الفنية المعينة على إخراجه إخراجاً علمياً دقيقاً يقوم على جمع نسخ الكتاب المخطوطة والمفاضلة بينها ثم اتخاذ إحدى النسخ أمّاً أو أصلاً، وإثبات فروق النسخ وما يتبع ذلك من إضاءة النص ببعض التعاليق والشروح وصنع الفهارس التحليلية الكاشفة لكنوز العلم، وما يسبق ذلك كله من التقديم للكتاب وبيان مكانته في العلم المصنف فيه، فهو واجب وطني وأمانة للأجيال أن نطلعهم على تراث آبائهم محققاً تحقيقاً يكشف لهم عن مواطن الجمال فيه ومواضع النفع منه.
الفنون والثقافة
وحملت الجلسة الثانية التي أدارها د. محمد قاسم عنوان (الفنون والثقافة) بمختلف جوانبها وبدأها د.نبيل الأسود بالحديث عن “الموسيقا تهذب النفس” موضحاً أن علاقة الموسيقا بالظواهر الاجتماعية من ثقافية وروحية وسياسية هي علاقة إشكالية منذ القدم، فهي استخدمت من قبل السلطة -وليست السياسية فقط- لخدمة أهدافها كالكنيسة التي استخدمتها لتثبيت عقيدتها منذ بداياتها والثورة الفرنسية التي طورت ما يسمى الأغنية الوطنية، وحتى الموسيقا التي كانت تعزف خلال الحقبة النازية والفاشية، مبيناً أنها سلاح ذو حدين إذا قد ترفع السوية الروحية والثقافية لأمة ما وقد تجرفها بمتعة وخبث ودهاء نحو الحضيض والهاوية، فالموسيقى سلاح طيع ومطيع إذا يكفي أن يحسن استخدامها لتصل بالروح الفردية والجمعية إلى أقصى ماتصبو إليه من جمال ورقي وحضارة.
وتحدث د. ماهر الخولي عن “المسرح حياة.. وحركة” لافتاً إلى أنه لا يمكن الإلمام بكل تاريخ المسرح في العالم، متسائلاً ما المدى الذي استطاع من خلاله المسرح أن يعبر عن الحياة بكل تناقضاتها وعن حركة المجتمع وحراك الناس، وعرف النص المسرحي بأنه النص الأدبي المكتوب بطريقة حوارية شعراً أو نثراً، ويمكن أن يقرأ فقط أو أن يتحول إلى عرض مسرحي يجسد فيه ممثلون أدواراً على خشبة المسرح أمام الجمهور، فالمسرح هو تواصل بين الخشبة( المرسل) والصالة( المتلقي) في زمان ومكان محددين لتحقيق المتعة والفائدة، ثم تحدث عن تاريخ المسرح وتطوره مع الزمن عبر مجموعة من الكتاب العظماء الذين كتبوا التراجيديا والكوميديا، وكذلك قلد المسرح الروماني التجارب اليونانية وكان مرتبطاً بالاحتفالات الدينية، وأما النهضة الأوروبية فقد بدأت في ايطاليا، وأن أول عرض مسرحي عربي يعود إلى عام ١٨٤٨ عندما قدم مارون النقاش عرضاً في بيروت، وأما في دمشق فأبو خليل القباني هو أول من قدم عروضا مسرحية وخطا بالمسرح إلى الأمام، ليصل الخولي إلى أن رحلة المسرح لم تكن سهلة بل كانت طريقاً وعراً، لكنه سيظل المسرح يحمل صخرة سيزيف محتملاً الآلام ومزوداً بالأمل.
وحول موضوع “الفن التشكيلي توثيق وآفاق” تحدث الناقد سعد القاسم حيث تجمع الكتابات التي أرخت للفن التشكيلي السوري على اعتبار توفيق طارق(١٨٧٥-١٩٤٠) رائداً له، فقد كان مؤسس تيار شارك فيه بعد ذلك عدد من الأسماء التي أسست للحياة التشكيلية السورية، وإلى ذلك كان لحضوره الشخصي الصاخب والثري دور كبير في إثارة الاهتمام بما يمكن وصفه بالوافد الجديد إلى الحياة الاجتماعية السورية، وتأسيساً على ما سبق فإن نقاد الفن ومؤرخيه يعتبرون أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تاريخ بداية الفن التشكيلي السوري بمفاهيمه الحديثة، وعلى امتداد القرن العشرين شهد الفن التشكيلي تطوراً كبيراً، ورغم هذا لابد أن نلحظ أنه رغم كل مظاهر الحيوية فإن الفن التشكيلي لم يحتل بعد موقعاً فاعلاً في حياتنا الاجتماعية، فجمهوره حتى الآن لايزال جمهور نخبة مع كل ما بلغته قاعدة هذا الجمهور من اتساع، ومن ناحية ثانية لازلنا بحاجة إلى توثيق دقيق لفننا التشكيلي يحول دون غياب التواصل بين جيل الرواد والأجيال التالية، خاصة أنه ما من متحف يضم أعمال الرواد ودعا إلى تعميم الثقافة التشكيلية لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، وفيما يخص أفاق الفن التشكيلي يرى القاسم أنه إذا لم يكن هناك حاضنة ودعم له ولم نشعر أنه هم اجتماعي وثقافي، فأنا “متشائم” حول أفاقه ومستقبله.
وعن “السينما حلم يتجدد” تحدث الناقد السينمائي عمار أحمد حامد قائلاً: إن الحديث حول الأحلام مثل الحديث حول السينما حيث تنطفئ الأضواء وتبدأ آلة العرض بعرض حياة أخرى أمامنا، ونخرج من الواقع الذي حولنا وننتقل إلى عالم آخر حقيقي أو متخيل، فكما يحدث عندما نحلم يحدث في السينما، فنحن نغلق أعيننا حتى ننام ونبدأ بمشاهدة أحلامنا وكل شيء في الحلم له دلالته ومعناه تماماَ كما في السينما عندما نصبح جزءا من العالم الذي نراه ونتأثر به ونفسر كل ما نراه على أنه دلالة لشيء ما مما يؤدي بنا إلى فهم الفيلم، مشيراَ إلى أن الأخوة لوميير عرضوا في شهر كانون الأول من عام 1895 عرضاَ واقعياَ عن عمال يغادرون المصنع الذي يعملون فيه في باريس بعد انتهاء ساعات عملهم وكان يستعرض أشياء هامة من مفردات الحياة اليومية آنذاك، وطبعاَ كان شيئاَ غريباَ على المتفرجين في ذلك الوقت أن يروا الصورة بلا ألوان ولم يكن هناك صوت بل صمت مطبق، وكان مشهداَ جديداَ بمثابة تحد لإمكانية هذا الفن الوليد، مبيناً أنه عندما رأى الكتاب والنقاد ما قد تفعله السينما بإمكانياتها وجدوها تشبه الحلم، فهي متحررة من أي قواعد محدودة في العالم الحسي والشخصيات تتحرك بكامل حريتها، وتناول حامد بعض الأفلام والمشاهد التي تعتبر مؤثرة في تاريخ السينما.
جمان بركات- لوردا فوزي