الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

من حلب (3)

د. نضال الصالح

لم يكن ثمة شيء يثير غضب فايز مثل تلك الراية ذات النجوم الثلاث بلون الدم. كان، ما إن تقع عيناه عليها، حتى يستعيد صورة ذلك اليوم، في بلدته الصنمين، عندما رآها أول مرة مرفوعة بقبضتي أحد رجال التهريب المعروفين في البلدة، ثمّ نفسه وهو يهجم عليه، ويرميها أرضاً، ثمّ يدوسها بقدميه، ويقول: “الخيانة لا تتجزأ، فمن يُطعم أولاده من المال الحرام لا يميز القبح من الجمال”.

ذلك اليوم أمضى فايز ليلته وهو يقرأ في كتاب: “صور مشرقة من نضال حوران” الذي يتحدث عن بطولات الجنوب السوري ضدّ الاحتلال الفرنسي، وممّا استوقفه وأعاد قراءته غير مرة حكاية استسلام “الملازم كورو” قائد الحامية الفرنسية في درعا قبل نحو سنة من الجلاء، وإنزال العلم الفرنسي عن سارية الثكنة العسكرية، ورفع العلم السوري مكانه،  ومن ثمّ استسلام “الكابتن لوفيك” قائد موقع إزرع، و.. وكان يردّد لنفسه: “هؤلاء هم أهل حوران، هذه درعا”.

ليلة بتمامها وفايز يقرأ ويقرأ، ولم يكد الصباح يجهر بأوّل ضوئه، حتى كان حسم أمره، وكان أوّل الواقفين في صفّ طويل من الشباب أمام شعبة التجنيد في المدينة، ثمّ يبدأ التقلّب على جمر المضيّ من مكان إلى آخر مشاركاً مع وحدته العسكرية في المعارك ضدّ المسلّحين، ومن مشفى إلى آخر بسبب إصابته في تلك المعارك غير مرة، حتى استقرّ الأمر به أخيراً في الحاجز القريب من ساحة سعد الله الجابري في حلب.

أعادت أم ندى السؤال: “متزوج يا ابني؟”، فعادت الابتسامة التي صخبت في عينيه عندما سألت أول مرة إلى الحياة من جديد، وردّد إجابته الأولى نفسها: “مَن سترضى بي يا خالة وأنا لا أعرف، وغيري لا يعرف، متى سينتهي هذا الجراد”، وكانت ندى التي تحررت تماماً من أثر المخدّر تتابع ذلك البريق الحزين في عينيه اللتين كان كوكباهما الملوّنان بزرقة رهيفة يلهثان في مجرّة الفضاء الأبيض حولهما كأنهما يبحثان عن شيء ضائع منه، شيء لم يكن يدركه سواه، أشبه بسؤاله: “متى سينتهي هذا الجراد؟”. وبين عينيه وعيني ندى كان ثمّة ضوء يبزغ مثل أوّل إشارة لصباح بعد ليل مكفهر بالسواد، بل بعد خمس سنوات من أوّل نزيف للدم في البلاد.

لم يكد مدير المشفى يدخل الغرفة المزدحمة بغير مصاب ويطلب إلى أهل ندى مغادرة المشفى إلى البيت لسببين كما قال: “يصلنا جرحى جدد، وجرح الآنسة لا يتطلب متابعة مباشرة من طبيب”، حتى هدر فايز بصوت عال: “كيف نعيدها إلى البيت يا دكتور وكلّ ما في المدينة..”، ولم تدعه أم ندى يتمّ ما أراد أن يقول، إذ مدّت كفّها إلى كفّ ندى تعينها بإيماءة من عينيها على النهوض وهي تقول: “الدكتور معه حقّ، ربما كان في الإسعاف جرحى أشدّ حاجة إلى هذا المكان”، وما إنْ توكأت ندى جسدها المنهك بفعل المخدّر، وكانت كفّ فايز هُرعت إلى كفّها لتساعدها في النهوض أيضاً، حتى….. (يتبع).