رأيصحيفة البعث

حماة الأثرياء.. مجلس “التهاون” نموذجاً

لم يكن اعتبار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن طريق فرنسا لإنهاء تمرد “السترات الصفراء”، يمر عبر إلغاء اتفاق باريس المناخي، أي حل مشكلة داخلية راهنة بإشعال مشكلة عالمية قادمة، سوى تعبير عن مأزق عالم اليوم أمام تحدياته الجديدة المتعدّدة، وهو تعبير لاقته، ولو في سياق يبدو مختلفاً، “القمة الخليجية” في الرياض التي لم تجد حلولاً لمشاكل دولها، الداخلية، من اقتصاد ريعي مشوّه، وعلاقات متوترة بين السلطة والمجتمع، واهتزاز في بنية السلطة ذاتها في أغلب دولها، أو المشاكل البينية، التي وصلت لحد العداوة المطلقة بين بعضها البعض، سوى بالإسهام في تزكية مشاكل إقليمية عدّة عبر اختراع أعداء وهميين والتحالف مع الأعداء الحقيقيين للأمة بأسرها، ليصبح المجلس “بسياساته العرجاء”، كما شهد شاهد من أهله، أي صحيفة خليجية، “مجلس التآمر الخليجي الذي ظل المواطن الخليجي سنين طويلة ينتظر أن يثمر هذا النبات ثماراً صالحة تعود على الدول والشعوب بالفائدة، لكن أثمر نباتات الشري المر العلقم”.
والحال فإن المجلس، وعلى غرار دوله المكوّنة، أُنشئ بمادة واحدة: مواجهة أي نزوع تحرري، سواء كان عربياً أم إقليمياً، يبحث عن القرار المستقل، ولهدف واحد: الحفاظ على المصالح الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة، وهما معاً، المادة والهدف، يفسّران توقيت إنشائه، بعد ثورة إيران من جهة واتفاقية “كامب ديفيد” من جهة ثانية، وبذلك يصبح من نافل القول تفسير موقف “المجلس” السلبي والتاريخي، بالمعنى الزمني، من المشاريع الوطنية المستقلة ومن المقاومة، قومية كانت أم إسلامية أم يسارية، ضد “إسرائيل” ومن خلفها وأمامها واشنطن بطبيعة الحال.
وبالطبع فإن ذلك يستبطن في الجوهر، وفي ظل علاقة التبعية الشهيرة شمال – جنوب، هدفاً أبعد وأهم لإنشاء المجلس، وهو حماية الأثرياء من الفقراء، والحفاظ على استمرار وجهة “حَلبِ” الموارد الداخلية لصالح الخارج، وهو ما قام به المجلس بنجاح، يُشهد له، على طول الأعوام الماضية. وفي هذا السياق تحديداً تندرج مليارات ترامب التي نهبها من الرياض وغيرها، كما تندرج فيه أيضاً حرب اليمن، وقصة إنشاء “ناتو عربي” كشكل جديد لحماية الأثرياء المحليين وأسيادهم في الخارج.
واستطراداً، ليست الأزمة الخليجية بين الرياض والدوحة سوى خلاف على من هو الأجدر بالمركز الأول في التبعية للخارج، فيما “الضجة”، الأمريكية تحديداً، على مقتل “خاشقجي” تستبطن صراعاً داخل النخب الحاكمة في الرياض وواشنطن على السلطة والثروة، وليس على أي قضايا أخرى من قبيل الإنسان وحقوقه أو القانون الدولي وما إلى ذلك.
بيد أن ما يواجهه “المجلس” فعلياً والأزمات التي تضربه، بغض النظر عن البيان الحالم الذي أصدره حول “الوحدة وقيادة عسكرية مشتركة”، هو ما يواجه كل حماة الأثرياء اليوم – ماكرون نموذجاً – في ظل عالم يتغيّر بسرعة لافتة، حاملاً معه بيئة جيوسياسية إقليمية ودولية جديدة مازالت في طور التشكّل والتكوّن، بيئة لن يكون للفقراء فيها دور كبير، فذلك مجرد حلم وردي، لكنها ستشهد إعادة توزيع للثروة بشروط أكثر إجحافاً لصالح المركز الأمريكي تحديداً، ولصالح غيره من مراكز مستجدة، الأمر الذي يضع “المجلس”، مثل كل التكتلات المتشابهة – ما يحدث للاتحاد الأوروبي درساً ودلالة – أمام منعطف كبير وخطير في الآن ذاته، وهو منعطف يحفل بتحديات أخرى غير التي قاربها اجتماع “التهاون”، كان من الواجب مقاربتها بسياسات جديدة وعقلية جديدة، لكن ما جرى يؤكد أن البعض يمتلك مناعة طبيعية مدهشة ضدها.
بالأمس صرخ ترامب في رد فعل سريع على مخالفة دول العالم لمشيئته في تجريم حركات المقاومة: “من هم الذين يجب أن نأخذ أموالهم؟”. وسريعاً جاء الرد له، ولبقية دول العالم الراغبة، من قمة مجلس “التهاون” الخليجي بسياستها “الحولاء”: منّا نحن، ليكون مرة أخرى بقرة العالم الحلوب التي ستُذبح، بعد أن يجف ضرعها، دون شفقة أو رحمة.

أحمد حسن