ظلّ الفساد..
لعلّها من المفارقات الغريبة أن يكون “اقتصاد الظل” أحد أهم حوامل توازننا الاقتصادي خلال سنوات الحرب، رغم أنه أقرب إلى التهمة بوجوده كحالة “خارجة عن القانون” وفق أدبيات الإدارة التقليدية للاقتصاد.
فقد كان بنك الأهداف واسع الطيف في توجّه الإرهابيين ورعاتهم لتدمير سورية، لم يستثن مؤسسة إنتاجية، لا عامة ولا خاصّة، لتعطيل الحراك الاقتصادي، والتسبب بـ “شلل ما قبل الانهيار”، لكن المفاجأة كانت صادمة لمكنة الرصد الخارجية التي سجّلت خروج حوالي ألف برّاد وشاحنة يومياً من سورية باتجاه العراق كوجهة رئيسة خلال ذروة سنوات الحصار “2013 و2014″، وكلّها محمّلة بما أُنتج في سورية زراعياً وصناعياً، وكانت سلع الشق الثاني من إنتاج أقبية الظل والورش المخفيّة.. وهذا استنتاج دفع أصحاب قرار الحصار إلى إغلاق كافة المعابر الحدوديّة من وإلى سورية، ولعلّنا نذكر الوقع القاسي للإجراء “اللئيم” حينذاك.
لدينا قوّة اقتصادية هامشيّة إذاً، تكاد تضاهي منشآت الاقتصاد المقوننة والمشرعنة، وهذا يعني أن ثمة مهمة خاصّة أمامنا اليوم، ونحن نتوجّه نحو الأفق الجديد لبلدنا، تتمثّل بإعادة زج هذه القدرات الهائلة في السياق الوطني وإخراجها إلى النور.. لكن السؤال الهام والحسّاس هو: كيف سيكون لنا ذلك؟؟.
الواقع أنها مسألة بالغة التعقيد لأنها تبلورت على تعنّت بعد محاولات رسمية كثيرة سابقة باءت كلّها بالفشل، بل ازدادت الظاهرة بأبعاد أفقية فضفاضة، وهذا يجب أن يستفز تساؤلاً آخر عن سبب الفشل في المعالجة أولاً، ثم لماذا يلوذ “روّاد الظل” أصلاً بالزوايا المعتمة لممارسة نشاطهم الحرفي أو الصناعي ثانياً؟؟.
ربما يكون في حسن التقاط الإجابات حل شامل لسلسلة إجرائية طويلة تتعلّق بالتعاطي مع القنوات التقليديّة للتوظيف الرأسمالي في بلدنا، فجميعنا يدرك أن المنشآت المرخّصة، إما متهربة ضريبياً بنسب عالية، كما أن أصحابها خاضوا في دهاليز وعرة حتى حصلوا على تراخيصهم، وتكبّدوا تكاليف باهظة تتعدّى الرسوم التقليدية.. وهذه لم تعد أسراراً خصوصاً خلال سنوات ما بعد 1991 والمنعطف الذي أحدثه قانون الاستثمار رقم 10 آنذاك، وما تبعه من تشريعات على مستوى الاستثمار الصناعي والسياحي أيضاً حتى قبيل العام 2011!.
من هاتين الحيثيتين تبدو الانطلاقة السليمة لإعادة تصويب مطارح وبيئة الاستثمار.. وليكن موضوع اقتصاد الظل هو نقطة الانطلاق، لأنه نتيجة لخلل ثقيل الظل، وليس سبباً له.. ولو تحرّينا بشيء من التأنّي سنصل إلى النتيجة التي توجّه إصبع الاتهام إلى النظام الضريبي بتشريعاته وأداء كوادر الاستعلام والجباية، ثم إلى كل الدوائر المعنيّة بإجراءات الترخيص من البلديات إلى مجالس المدن والمحافظات، وصولاً إلى المعنيين في الوزارات صاحبة الاختصاص، وهذا يعني أن دائرة الاتهام واسعة الطيف، يمكن اختصارها بكلمتين “الفساد والتشريع”، وهما موضوع مواجهة – تبدو جادّة– بدأتها الحكومة بتوجيهات طازجة، ولا نظن أنها ستُحسم بسرعة، لأن المشكلة الماثلة أمامنا هو ركام عقود، وليس مجرّد سنوات.
اقتصاد الظل.. فرص العمل الهامشيّة.. وملامح أخرى غير مرئيّة للمشهد الاقتصادي، عناوين يجب أن تغادر قواميسنا تماماً، لكن ليس بالطرق الزجريّة، بل بأدوات عمل فنيّة احترافيّة، يجب أن تخرج لنا بتشريع ضريبي جديد، وأداء نظيف لموظف المالية، ثم بتعليمات وقوانين واضحة، وإجراءات جزائيّة قاسية بحق شاغلي المفاصل التي تدور فيها دوائر الابتزاز.
ولا بد في السياق أن نخصّ أصحاب الأعمال بحصّتهم من المساءلة والجزاء، لأن المفسد في معادلة الفساد البغيضة ليس شخصاً بريئاً، بل هو مرتكب ومتطاول على القانون أكثر من الموظف الفاسد، فهؤلاء هم من أوجد المسار الهامشي لسير المعاملات والإجراءات ذات “الدسم العالي”، وقطعوا الطريق تماماً على كل راغب بالعمل في الضوء، فكان خيار “الظل” بوّابة الخلاص والعبور المجاني إلى عالم الأعمال.
ناظم عيد