سؤال الحب من تولستوي إلى اينشتاين
كثير من قراء روائع الأدب العالمي والعربي تغيب عنهم حقائق عديدة حول خفايا تبلور تلك الأعمال الخالدة،ومنبع إلهامها،وكما يقال خلف كل عمل أدبي عظيم حكاية ألم ومعاناة، فإننا نتوقف عند بعضها في الكتاب الصادر حديثا(٢٠١٨)عن دار المدى للكاتب علي حسين تحت عنوان”سؤال الحب من تولستوي إلى اينشتاين “وفيه يجتهد المؤلف في البحث عن دور الحب الخلاق في خروج روائع الفنون إلى العلن،هذه العاطفة المسؤولة عن تفتح ملكة الإبداع والخلق التي منحت البشرية روائع تركت آثارها في النفس البشرية على مر السنون، بدءا من إلياذة هوميروس اليوناني إلى وقتنا الراهن،محاولا إيجاد صيغة مشتركة لتعريف هذه الحالة الخلقية. الحالة التي ألهمت تولستوي إبداع أروع أعماله “آنا كارنينا” ولهذا تسأله زوجته سونيا بعد أن توقف عن الكتابة عندما تقدّم به العمر، لماذا لم تعد تكتب؟ فيقول: “لا احد يستطيع سماعنا عدا هذه الأشجار، كما أعتقد عزيزتي، لذا سأخبرك بأننًي قبل أن أكتب أي شيء جديد أحتاج أن ألتهب بالحب، وهذا ما انتهى الآن. قالت سونيا، مضيفة بروح الدعابة، يمكنك أن تقع في حبي، إن أحببت لكي تستطيع أن تكتب شيئا ما.قال: كلا، لقد فات الأوان..”
وحين كتب جان جاك روسو روايته الوحيدة “جولي أو هولبز الجديدة” كان عمره ستة وأربعين عاما،وكان مغرما بفتاة تحمل الاسم نفسه، وحينها أصبحت بطلتها “جولي” حديث الناس وصالونات الأدب في أوروبا، ومنحت روسو شهرة واسعة.
أما ذلك الشاب ابن الثامنة عشر ربيعا الذي كان يحلم بأن يصبح ممثلا، فأدمن مشاهدة كلاسيكيات شكسبير وحفظ حوارات مسرحياته، فقد شاهدها ذلك اليوم عندما كانت تؤدي دورا صغيرا في مسرحية عطيل، اقترب منها ليقول لها: اسمي تشارلز ديكنز، أحاول أن اكتب للمسرح. فتجيبه ببرود:”لم أسألك عن هواياتك ياعزيزي”. لكنه لم يفقد الأمل وتقدم لخطبتها ذات يوم، لكن ماريا قابلت طلبه بالرفض وطلبت منه البحث عن زوجة تناسب ظروفه. كانت رسالة ماريا إيذانا بأن يصحو من أوهامه، ويتوقف عن الذهاب إلى المسرح، وينسى فكرة التمثيل، ليجد نفسه يجلس ذات ليلة إلى طاولته الصغيرة يكتب قصة غرامه الأول في رواية “دوريت الصغيرة”.
وأما سيمون دي بوفوار فقد كانت الأصغر بين طالبات وطلاب جامعة السوربون تستعد لخوض الامتحان النهائي، وذات يوم وهي منشغلة في الحديث عن فلسفة “ليبتنتز” لمحت طالبا ينظر إليها بإعجاب، ثم يقترب منها ليقول لها: جمالك فيه لمعان خاص، وصوتك قوي، وحديثك متلاحق..” وبعد سنوات ستقول عنه سيمون:”إنه أكبر انجاز في حياتي”ذلك الطالب كان جان بول سارتر الذي احكم السيطرة على تفكير بوفوار.وبعد أشهر من رحيل سارتر نشرت الصحافة الفرنسية المحاورة الأخيرة بينه وبين بوفوار ومن بين الأسئلة التي طرحتها دي بوفوار على سارتر كان سؤال يتعلق بالحب: علام اعتمدت في تفسيرك للحب الدائم بأنه نقيض الحرية؟
سارتر: بطبيعة الحال لدي أولوية تضع الحرية في المرتبة الأولى وتضع الحب في المرتبة الثانية، لكنني اليوم أتمنى لو أنني قلبت المعادلة، فالحرية ليست سوى وسيلة توصلنا للحب الدائم.
وفي رواية “الحب في زمن الكوليرا” يروي غارسيا ماركيز قصة غرام أبويه، لكنه يهديها إلى “مرثيديس” المرأة التي أحبها وقرر الزواج بها، هذه الرواية يضعها النقاد بمصاف الأعمال الكبرى التي صدرت في القرن العشرين.
لكن الأديب الذي عاش أشهر أسطورة حب في القرن العشرين كان بول ايلوار مع حبيبته الروسية غالا، التي أهداها معظم قصائده، واعترف لها برسالة بأنه ما كان ليكتب لولاها.وفي عام ١٩٥٢، وقبل رحيله بأشهر يكتب ايلوار أشهر قصائده ويهديها إلى غالا يقول: لأجل كل النساء اللواتي لم أعرفهن احبك/لأجل كل الأزمنة التي لم أعشها أحبك/لأجل رائحة البحر الواسع، ومذاق الخبز الساخن/لأجل الثلج الذي يذوب، لأجل الزهور الأولى/ أجل الحيوانات الطاهرة التي لا يفزعها الإنسان/احبك لأجل الحب.
أما ارنست همنغواي فقد كشفت روايته “وداعا للسلاح” خفايا علاقة جمعته مع الممرضة التي كانت تعالجه من جروح أصيب بها أثناء عمله سائق سيارة إسعاف في فرنسا خلال الحرب الثانية، اسمها أنييس كوروسكي المرأة التي قتلت برصاص مسدس زوجها بسبب علاقتها بهمنغواي.الذي قتله إحساسه بالذنب.”ذات صباح تسلل بهدوء من فراشه، وارتدى معطفه، وتناول البندقية وفجر دماغه، وعندما هرعت زوجته ماري نحو مصدر الصوت وجدته منكبا على مائدة الطعام وأمامه ورقة مكتوب عليها بخط جميل:”لم اعد احتمل، إنها تلاحقني ليل نهار وفي عينيها الجميلتين نظرة عتاب مروعة…”.
وفي اليوم الثالث من تشرين الأول سنة ١٨٩٧ ولد لويس اراغون الشاعر الفرنسي لأم تدعى مارغريت توكاس، وخلال سنوات طويلة أوهموه بأن أمه هي أخته، ولم يخبروه بقصة والده الذي هرب قبل ولادته ليجد نفسه وسط عائلة من النساء، أمه وخالاته وقريباته وجميلات الحي، إلى أن التقى بإلز تروليه التي غيرت حياته وألهمته شعره “لقد انتزعت اليأس من جسدي كما تنتزع الأشواك، ومنحتني حبا جديدا للغة لها وضوح الظهيرة، وغيرت قلبي وأعادته إلى صدري..”
أما المرحلة التي شهدت أوج العلاقة العاطفية بين الكاتبة جورج صاند والموسيقي البولوني شوبان فقد اخذ شوبان يشعر بالهدوء الذي انعكس على مجمل اعتماله، فيما كانت شخصيات روايات صاند تأخذ الكثير من ملامح شوبان..
وعندما اشتد عليه المرض، كانت صاند ترى الموت في عينيه، فقررت أن توثق حيزا من حكايتهما في رواية أسمتها “المركيزة” غيرت فيها بالأسماء والأماكن، إلا أن شوبان عندما قرأها شعر بأن الأمر أشبه بالخديعة، فكتب لها رسالة ختمها ب”إلى اللقاء يا صديقتي” وسافر إلى لندن، حيث فضل ان يصارع الموت وحيدا هناك، لكنه في اللحظة الاخيرة يقرر العودة الى باريس ليجد صاند في انتظاره
علاقة الحب بالإبداع لم تكن بمنأى عن نجيب محفوظ وبخاصة في ثلاثية بين القصرين، والمرايا، وعصر الحب، حيث يقدم وصفا معمقا للحب بدءا بولادته وانتهاء بأعلى قمة تطوره، فالحب بالنسبة لأبطال رواياته هو مبدأ حياتي رفيع، وهو في أكثر المقالات التي كتبها عن مفهومه لفلسفة الحب نراه يميز بين نماذج عدة للحب.
وأما حكاية توفيق الحكيم مع سوزي بائعة التذاكر في مسرح الاوديون اثناء وجوده في باريس فقد ألهمته حكاية الفتى محسن في رواية عودة الروح، والشاب في “عصفور من الشرق” هذه الرواية التي اقتبس عنوانها من لقب أطلقه عليه الفرنسيون الذين استأجر عندهم غرفة، لأنهم كانوا يرونه شابا خياليا.
وحال توفيق الحكيم لم تكن بأفضل من حال مواطنه طه حسين الذي كتب ذات مرة الى زوجته الفرنسية سوزان يقول:”بدونك أشعر إنني أعمى حقا.أمّا وأنا معك، فإني أتوصل الى الشعور بكل شيء، وإني امتزج بكل الأشياء التي تحيط بي”. وعندما فارق الحياة كتبت هي:”ذراعي لن تمسك بزراعك أبدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن.
لكن عباس محمود العقاد كان حبه في مصر مع الكاتبة مي زيادة التي رمز إليها في قصته الوحيدة “سارة” وهند في أشعاره..جمعهما اللقاء الأول في صالونها الأدبي الذي كان يعقد كل ثلاثاء. وقد شهدت على حبهما العديد من الرسائل المتبادلة بينهما..رغم ورود اسمها في حياة جبران خليل جبران الذي كانت ماري هاسكال ملهمته “فقد كتب إلى ماري رسائل عديدة أثناء تواجده في باريس لدراسة الرسم على نفقتها الخاصة منها “افكر مرارا أني اسمع همسات الكائن الذي يرشدك وهو يخاطبني بشأنك..” يجيبها برسالة “لقد اصبحت قدري…” فتكتب إليه “وانت الذي أجده دائما كلما انطويت على نفسي..”
ويتطرق الكتاب الى حكاية الكاتب الأمريكي ارثر ميلر والممثلة مارلين مونرو التي انتهت بالزواج. وبلزاك مع مدام دي برني ملهمته التي يؤكد معظم دارسي ادبه انها هي التي اعطته افكار معظم رواياته، نظرا لغنى ذاكرتها بالأحداث، فرواية “زنبقة في الوادي” كتبها بعد ان علم بمرض مدام دي برني الخطير فأراد ان يخلدها ويكتب لها عملا تقرأه قبل موتها.ويذكر ايضا هنري ابسن واميلي وانشتاين وميلينيا، ودستوفيسكي وماري دمتريفنا وغيرهم.
كتاب غني يسلط الضوء في ٣٢٥ صفحة بأسلوب حكائي سلسل ومشوق على سيرة حياة عظماء الادب الذين انتجوا خيرة الكنوز الادبية الخالدة.
آصف ابراهيم