ثقافةصحيفة البعث

لا فقراء في أم الطنافس الفوقا إلا الموتى!

يدخل “عادل” الفساد في ضيعة أم (الطنافس الفوقا)، إلى مخفر القرية، ليخبر المساعد “أبو نادر” رئيس المخفر، بأن رجال القرية ينبشون قبور أجدادهم، باعتبارهم أكثر من يستحق دعم المازوت كفقراء، ولا يملكون شيئا يدل على عكس ذلك تماما، فالقرار الذي صدر بتوزيع المازوت على الفقراء، في واحدة من حلقات مسلسل “ضيعة ضايعة”-ممدوح حمادة- الليث حجو-، في جزئه الثاني، فيه قوانين صارمة لمن يكن فقيرا أو العكس، ورغم البؤس والفقر المدقع، الواضح على تلك القرية وأهلها البسطاء، إن كان في مأكلهم أو مشربهم وحتى أزيائهم، التي تُظهرهم وكأنهم خارج هذا الزمان، إلا أن هذا لم ولن يُقنع الموظف الذي جاء هذه المرة ليقيم من يستحق منهم أن تُقدم له مادة المازوت باعتباره فقيرا، ومن لا يحق له ذلك.
المفتش “النظيف الكف على غير العادة التي صورته فيها الدراما المحلية عموما- عندما دخل ليعاين فقر “جودة أبو خميس”-أدى دوره باسم ياخور- في بيته، خرج بنتيجة أنه لا يستحق المازوت! فهو ليس فقيرا كما يدعي، فقد وجد25 دجاجة في قن الدجاج الخاص به، وتلك الدجاجات هي في الحقيقة لـ “جودة أبو خميس” و لـ “أسعد خرشوف- معا،أدى دوره ببراعة منقطعة النظير الفنان الراحل “نضال سيجري”، وفي المعاينة التي قام بها المفتش في بيت “أسعد” خرج أيضا منها بكون أسعد الذي لا يمكن للفقر أن يكون إلا على الهيئة التي ظهر فيها بالعمل المذكور، وجده أيضا لا يستحق المازوت، فهو ليس فقيرا لامتلاكه بارودة لا تساوي قروشاً كونها معطوبة، وعمرها أكثر من 50 عاما، إلا أن المفتش اعتبرها دليلا على كون “خرشوف” ليس فقيرا، فمن يمتلك بارودة، حتى لو كانت بتلك الصفات التعيسة، هو ليس بحاجة للدعم، وما عليه إلا أن يخرج إلى الصيد، ليعود ومعه رزقه مما اصطاده من عصافير ليبيعها، وهذا يجعله يوزع مازوتاً على القرية كلها حسب رأي المفتش.
معاينة بيت المختار اكتشف فيها المفتش أن المختار أيضاً ليس فقيرا، فهو يملك بيتا من طابقين، ويضع اللوم على المختار “البيسة” –أدى دوره زهير رمضان-، في كون بيته القديم الطراز، يستطيع أن يقوم بتأجيره ويستفاد بأجرته، فهو ليس فقيرا إذا ولا يحق له الدعم؛ حجة “البيسة” لم تُقنع المفتش الصارم، فالبيت يقع في قرية حسب القصة هي المنجى الوحيد في العالم، وتقع بأعالي الجبال، حتى أن سكانها لا يعرفون من حضارة المدينة إلا “البروسلي” –فروج البروستد- وهذه الصفات ليست مشجعة لأن يأتي أي مستأجر محتمل للطابق الأول من بيت المختار، لكن المفتش اتهمه بالتقصير، كونه لم يقم بوضع بيته للإيجار في المكاتب التي تشتغل بهذا الشأن!، أما رجل الاقتصاد الأول في القرية “الختيار صويلح” صاحب الدكان المتواضع جدا، والذي يبيع فيه لأهل القرية بالدين، أكثر مما يبيعه بعشرات المرات نقدا، فقد وجده المفتش (النظامي هذه المرة) لا يستحق المازوت في تلك البقعة المتجمدة شتاء، باعتباره صاحب دخل يستطيع من خلاله (شراء مازوت التدفئة للقربة كلها) حسب المفتش أيضا.
أهل القرية قاموا برمي كل مصادر (البذخ) التي شاهدها المفتش الصارم وعلى أساسها قرر أن سكان “أم الطنافس الفوقا” فقراء، ثم يجلسون بجوار الطريق بانتظار أن يُنهي مفتش الغفلة هذا جولته، ليخبروه بأنهم صاروا فقراء جدا، فلا دجاج لديهم، ولا بارودة صيد قديمة وغيره، إلا أن المفتش وجد أن “جودة” لم يزل “زنكيلا” ففي بيته عدة علب من “البرينطين” منتهي الصلاحية، والفقير لا يحوي منزله هذه المادة عادة، والأمر ينسحب على البقية.
“أبو نادر”-أدى دوره جرجس جبارة”، رئيس المخفر وبعد خبرية “عويدل” الفساد، يذهب ليرى لماذا ينبش أهل القرية قبور موتاهم وهو مصاب بحيرة لا توصف من هذا الفعل، فيخبروه بما معناه، أن المعايير التي وضعتها الحكومة لكي يكون الفقير فقيرا ويستحق مادة التدفئة، لا تنطبق إلا على الموتى، وهاهم يخرجون موتاهم عسى ولعل يجد المفتش في أولئك الأموات أنهم فقراء فعلا، فلا شيء يملكوه أبدا عدا هيكلهم العظميّ.
رئيس المخفر وأمام هذا المشهد المُبكي، لا يستطيع إلا أن يتضامن عاطفيا وإنسانيا مع ما رأى من خرق للقانون في نبش القبور، لكنه أيضا كاد ينفجر من الحزن، على عائلته وأطفاله الذين لا يملكون أيضا أي نقطة مازوت للتدفئة، فهم “أيضا زناكيل”، حسب تلك المعايير، ولا يستحقون أي دعم بما يخص مادة التدفئة المدعومة!.
اللافت في القصة، أو فلنقل الجيد في الحلقة الآنفة الذكر، أن الموظف المكلف بهذه المهمة، أي فرز الفقراء عن “الزناكيل”، يظهر وللمرة الأولى ربما لا يرتشي، وهو حازم في تنفيذ القرار، ولا يقبل لا الرشوة ولا غيرها.
تُرى بماذا تذكرنا هذه القصة في الوقت الحالي وفي أوقات ماضية قريبة؟ هل من مجيب؟

تمّام علي بركات