مائة عام على مشروع تصفية القضية الفلسطينية
د. مازن المغربي
شاع تداول فكرة أن مسار مشروع تصفية القضية الفلسطينية انطلق إثر اتفاقيات أوسلو كما لو أنه كان هناك، قبل اتفاقيات أوسلو، مشروع حقيقي لإيجاد حلّ لقضية شعب سُلبت منه الأرض التي عاش عليها أجداده بحجج توراتية تمّ تحويلها إلى سياسات تُرجمت على الأرض بمشروع متعدّد المراحل شهد تحولات حادة غيّرت طبيعته بشكل جوهري، والمستهجن أن كل تلك المراحل حظيت بغطاء من قبل زعماء عرب من البلدان المحيطة بأرض فلسطين.
لقد اعتدنا التعامل مع الحركة الصهيونية ككل متكامل، في حين يقتضي المنطق التاريخي إعادة دراسة هذه الحركة التي مرت في تاريخها بمنعطفات حاسمة غيّرت الكثير من جوهرها. ويعتبر العقد الثالث من القرن العشرين من أهم المحطات التاريخية في تطور الحركة الصهيونية، حيث شهد صعود النزعات القومية العنصرية في مختلف أرجاء أوروبا، وساهم في تعزيز حجة أنصار الحركة الصهيونية في مواجهة أنصار سياسة اندماج اليهود في المجتمعات التي عاشوا فيها، والذين شكّلوا أغلبية ساحقة بين صفوف يهود أوروبا خلال الفترة السابقة. ويبدو هذا جلياً من مراجعة أعداد اليهود الذين عاشوا في فلسطين وتنامي عددهم تحت تأثير موجات متتالية من الهجرة، حيث بلغ عدد اليهود في فلسطين عام 1882 أربعة وعشرين ألفاً ارتفع تحت تأثير الهجرة ليصل إلى خمسة وثمانين ألفاً عام 1914. واللافت للنظر أن الأغلبية الساحقة من يهود أوروبا كانت غير مبالية بالحركة الصهيونية، حيث شهدت الفترة الممتدة من 1882 وحتى 1914 انتقال أكثر من مليونين من يهود أوروبا إلى الولايات المتحدة، في حين توزع قرابة 230 ألف يهودي على بلدان القارة الأمريكية الجنوبية، ولم تكن فلسطين هي الجهة المفضلة لدى اليهود الساعين للحصول على حياة أفضل.
وأدى اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى دفع السلطات العثمانية لطرد اليهود الذين كانوا بمثابة أجانب ولا يحملون وثائق عثمانية من فلسطين، الأمر الذي أدى إلى انخفاض عدد اليهود في فلسطين عام 1918 إلى 57 ألفاً. حدثت هذه التطورات بمعزل عن إرادة سكان البلاد وكانت مرتبطة بالمجهود الحربي للدولة العثمانية. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى انتقلت السيادة على فلسطين إلى القوات البريطانية وشهدت الهجرة اليهودية انتعاشاً ملحوظاً، حيث بلغ عدد اليهود في فلسطين قرابة 175 ألفاً. وكانت بداية العقد الثالث من القرن العشرين مرحلة مميزة في تاريخ أوروبا نتيجة لانتكاسات الحركات الاشتراكية والشيوعية وصعود النازية والفاشية، الأمر الذي أجّج مشاعر الحقد ضد يهود أوروبا، وكانت الحركة الصهيونية تطورت بشكل كبير نتيجة تحالفها مع بريطانيا تنفيذاً للمشروع البريطاني القاضي بإنشاء ملاذ قومي لليهود في فلسطين وفق نصوص إعلان بلفور، الأمر الذي فسح المجال لرفع أعداد اليهود في فلسطين إلى 630 ألفاً عام 1947. حدث كل هذا بمعزل عن مشاركة ممثلين عن أهل فلسطين، وفي واقع الأمر لم يكن هناك أي دور ملموس للعرب طوال الفترة الممتدة من 1914-1922 وهي الفترة التي حسمت مصير الولايات العربية في الدولة العثمانية.
كانت النُخب المحلية مغيّبة تماماً ولم تمتلك أبداً مشروعاً خاصاً بها، ولم تبرز دعوات المطالبة بالمساواة بين الناطقين باللغة العربية والناطقين بالتركية إلا في صفوف ضباط الجيش العثماني الذين أسّسوا جمعية “العهد”، أما الشباب المتعلم المبهور بالتقدم الأوروبي فلم يشكلوا إلا مجموعة منعزلة أسّست في فرنسا جمعية “العربية الفتاة” التي بلغ عدد أعضائها قرابة ثلاثمائة شخص، وتمكّنت من عقد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913 وحضره ثلاثة وعشرون مندوباً من لبنان والعراق وسورية وفلسطين، في حين شارك أفراد من مصر ومن بلدان عربية أخرى بصفة مراقبين. ويجب التوقف عند هذه الجزئية المهمّة، ففيما يتعلق بمصطلح العرب كان المقصود، وفق وجهة نظر بريطانيا، هم سكان الساحل الشرقي للبحر المتوسط، أما شعوب شمال أفريقيا الناطقة باللغة العربية فقد تمّ إخراجها من حسابات القوميين العرب مراعاة لمصالح الدول الأوروبية التي كانت تمارس سيطرة مباشرة على تلك البلاد. إذن ومنذ البداية كان مشروع النهضة العربية مؤطراً ضمن حدود النظرة الاستعمارية وهذه نقطة ضعف تركت تداعياتها على مسار الأحداث اللاحقة.
وقع اختيار بريطانيا على شخصين أعدّتهما للعب دور كبير في تنفيذ مخططاتها، الأول هو حاكم مكة العثماني الشريف الحسين بن علي، والثاني عبد العزيز بن سعود الذي انحصر تأثيره في مرحلة 1914- 1922 في شبه الجزيرة العربية على الرغم من حصوله على دعم حكومة الهند البريطانية، في حين كان لعائلة حاكم مكة مهام محدّدة في المخططات البريطانية. ولد الحسين بن علي في الآستانة حيث كان يعيش مع والده في المنفى المترف، ووقع اختيار السلطان العثماني عليه ليكون حاكم مكة حيث تمّ تعيينه في هذا المنصب عام 1908 في حين شغل أبناؤه مناصب رفيعة في الإدارة العثمانية. وكان ابنه الفيصل قائداً للسرايا العربية المكلفة بقمع تمردات العشائر العربية ضد الدولة العثمانية، وانتُخب في مجلس المبعوثان العثماني ممثلاً عن جدة، في حين انتُخب عبدالله بن الحسين نائباً عن مكة. ومارس الحسين بن علي سلطة شبه مطلقة في مناطق نفوذه معتمداً على بعده عن الآستانة ووعورة الطريق إلى بلاده، لكن قرار الباب العالي تكليف شركة ألمانية بشق طرق حديدية جديدة تصل إلى مكة وإلى جدة ولّد لديه مخاوف حول وجود نيّة لعزله ودفعه لتكليف ابنه المفضل عبدالله بالتواصل مع ممثلي السلطة البريطانية في مصر للحصول على ضمانات بدعمه في حال تحركه ضد الباب العالي. في واقع الأمر كان الحسين مخلصاً للسلطان لكنه كان معادياً لحكومة تركيا الفتاة التي أرادت تحويل الدولة إلى نظام عصري مركزي، وكان هذا أمراً جديداً، حيث أشارت غرترود بيل إلى أن الدولة العثمانية المركزية لم تكن سوى وهم وأن السلطة الحقيقية في معظم المناطق كانت في يد زعماء محليين.
إذن كان تمرد الحسين نتيجة لحسابات معقّدة فرضتها مصالحه ومصلحة أسرته، وكان يعرف تماماً أن وعده بتنصيبه ملكاً على العرب لم يكن سوى أكذوبة، حيث استثنى المشروع البريطاني كل شمال أفريقيا من المملكة الموعودة، كما تضمن المشروع البريطاني تصوراً خاصاً حول فلسطين وسورية تمّ تجسيده لاحقاً في اتفاقية سايكس بيكو.
وخلال ما سُمّي ظلماً “الثورة العربية” التزمت القوات العربية بأوامر القيادة البريطانية التي وفّرت المال والسلاح والمؤن، وحظي الفيصل بن الحسين بمنصب ضابط رفيع تحت إمرة القائد البريطاني الجنرال اللنبي ولم يعترض على منع القوات العربية من دخول فلسطين والمشاركة في تحريرها، في حين تمّ السماح بمشاركة الفيلق اليهودي في معارك فلسطين، الأمر الذي برّر لاحقاً منح يهود فلسطين حق المشاركة في مؤتمر الصلح في باريس، في حين تمّ حجب هذا الحق عن عرب فلسطين بحجة أنهم استمروا في دعم السلطة العثمانية حتى النهاية.
كما أن لورنس، عميل الاستخبارات البريطانية ومستشار الفيصل أعلم هذا الأخير بمضمون اتفاقية سايكس بيكو وإعلان بلفور. وتتالت الأحداث بعد ذلك وتمكنت بريطانيا من إخراج القوات العثمانية من سورية عام 1918 في حين نزلت القوات الفرنسية على الساحل السوري واحتلته من رأس الناقورة وحتى اسكندرون. ولم تعترف البلدان الأوروبية أبداً بالحسين ملكاً على العرب بل حصرت اعترافها به بوصفه ملكاً على الحجاز، وعلى هذا الأساس سافر ابنه الفيصل في نهاية عام 1918 إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح ممثلاً عن مملكة الحجاز، وكان حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية حاضراً وتوصل الطرفان، على هامش مؤتمر الصلح، إلى اتفاقية تمّ إعلانها في الثالث من كانون الثاني 1919 تضمنت أن الأمير فيصل ممثل المملكة العربية الحجازية والقائم بالعمل نيابة عنها والدكتور حاييم وايزمن ممثلاً للمنظمة الصهيونية والقائم بالعمل نيابة عنها، يدركان القرابة الجنسية والصلات القديمة القائمة بين العرب والشعب اليهودي، وهما متفقان، على أن أضمن الوسائل لبلوغ أهدافهما الوطنية تتمثل في إقامة أقصى ما يمكن من التعاون في سبيل تقدم الدولة العربية وفلسطين، ولكونهما يرغبان في زيادة توطيد حسن التفاهم الذي بينهما فقد اتفقا على ثمانية بنود تتضمن اعتراف الفيصل بشرعية إقامة دولة يهودية في فلسطين، وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين مع المحافظة على حقوق الفلاحين والمزارعين المستأجرين العرب ومساعدتهم في سيرهم نحو التقدم الاقتصادي. ونصّ الاتفاق على حماية المعتقدات الدينية والسياسية وعلى وضع الأماكن الإسلامية المقدسة تحت رقابة المسلمين. كما تمّ التوافق على تشكيل لجنة من الخبراء لتقوم بدراسة الإمكانيات الاقتصادية في الدولة العربية الموعودة، وأن تقدم تقريراً عن أحسن الوسائل للنهوض بها على أن تضع المنظمة الصهيونية اللجنة المذكورة تحت تصرف الدولة العربية بقصد دراسة الإمكانيات الاقتصادية في الدولة العربية، وأن تقدم تقريراً عن أحسن الوسائل للنهوض بها وستستخدم المنظمة الصهيونية أقصى جهودها لمساعدة الدولة العربية من خلال تزويدها بالوسائل لاستثمار الموارد الطبيعية والإمكانيات الاقتصادية في البلاد. كما نصّ الاتفاق على تكليف بريطانيا بالتحكيم في أي خلاف ينشأ بين الطرفين.
وأُرفق الاتفاق بخريطة تشير إلى حدود الدولة اليهودية الموعودة وتتضمن جنوب لبنان، وهضبة الجولان والضفتين الشرقية والغربية لنهر الأردن وكامل ساحل البحر الميت. صحيح أن الفيصل اشترط تنفيذ الوعود البريطانية لوالده لقبول الاتفاقية، لكن هذا لا يغيّر من جوهر الأمر في أن الفيصل ابن ملك الحجاز تخلّى عن أرض لا سلطة لديه عليها لمصلحة المنظمة الصهيونية.
مرت على هذا الحدث مائة عام كاملة وما زلنا نراوح في المكان، تغيّرت طبيعة الحركة الصهيونية وجنحت نحو العدوانية والعنصرية، ولم يعد هناك مجال لمفردات مثل حقوق عرب فلسطين وتمتعهم بالحريات السياسية والعقائدية. كما تغيّر المحيط السياسي الذي تتفاعل معه الحركة الوطنية الفلسطينية، فبعد مواقف العداء اللفظية التي تبنّتها الدول العربية ضد المشروع الصهيوني صارت إسرائيل شريكاً علنياً لمعظم الدول العربية التي تتعامى عما يحدث في الأراضي المحتلة من جرائم يومية. وتكمن المفارقة في تغيير الرأي العام الغربي، تحت تأثير معاناة سكان الأراضي المحتلة، حيث تتوالى المواقف الانتقادية للسياسة الإسرائيلية الهمجية من مختلف أنحاء العالم وتتسع حركة مقاطعة بضائع الأرض المحتلة لتشمل القارات الخمس، بل إن الجالية اليهودية في الولايات المتحدة تبنّت مواقف انتقادية شديدة تجاه سياسة إسرائيل في الأراضي المحتلة. وكانت البداية في مؤتمر دوربان عام 2001 وانتشرت موجة الدعوة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية ووصلت إلى الهند، حيث تبناها اتحاد عمالي شيوعي يضمّ ستة عشر مليون عضو، بل إن زعيم المعارضة العمالية في بريطانيا جيرمي كوربين تحوّل إلى رمز مناهض للسياسات الإسرائيلية. ولا بد من الإقرار بأن هذا التحوّل لم يحدث نتيجة لجهود الجانب العربي أو السلطة الفلسطينية بل بفضل تحرك أهالي الضفة والقطاع وإصرارهم على خوض مواجهة مستحيلة بين الحجارة والسكين من جهة وأكثر التقنيات العلمية تطوراً من جهة ثانية. هي مواجهة بين شعب أعزل، جائع ومحاصر ضد آلة عسكرية ضخمة. مائة عام مرت والتواطؤ العربي مستمر وهو يفرض العزلة على محور المقاومة، ويعزّز خطاب الحقد والكراهية ضد إيران إلى حدّ دفع أحد أكبر مناصري إسرائيل، رئيس منتدى الشرق الأوسط للتصريح بأن العرب باتوا لا يشكلون خطراً جدياً على إسرائيل.