ثقافةصحيفة البعث

“الاحتقار”.. صراع الثقافة والأفكار والبيئات المختلفة

تميز أدب ألبرتو مورافيا بالجرأة والخوض فيما يراه البعض من المحرمات، وهو يعد أحد الرواة الطليعيين المتمردين الذين كانت العلاقات ما بين الجنسين أحد أهم الموضوعات التي تناولوها، وروايته “الاحتقار” واحدة من بين عدد من أعماله التي تناول فيها تلك العلاقة بأسلوب فرويدي وبتحليل عميق لمشاعر كل من المرأة والرجل، وبواقعية بسيطة تسللت أفكاره عبر أفكار ومشاعر أبطال الرواية، التي حوّلها المخرج الفرنسي جان لوك غودار إلى فيلم يُعدّ من أفضل أفلامه ويحمل الاسم ذاته رغم أنه امتلك رأياً أقرب إلى السلبي من الرواية نفسها، إذ رآها مبتذلة وأقرب إلى روايات الجيب التي تقرأ في القطارات وأثناء الرحلات.

تحول وصراع

تتناول “الاحتقار” قصة زوجين يدخل الكاتب في صلب علاقتهما الزوجية، يشخص من خلالها تداعيات النفس البشرية، ويختزل فيها صراع الحب والكراهية أو هو بالأحرى الحب ومشاعر الاحتقار، صراع بين الزوج “ريتشارد” و”إميلي” زوجته التي تحولت مشاعرها نحوه إلى نوع من الكره الممزوج بالازدراء، لينقلنا الكاتب وعبر تسلسل الأحداث إلى صراع مواز للحكاية الرئيسية بطلاه هم أنفسهم أبطال الأوديسة، ويطرح فكرة ربما لم يتجرأ بعضنا على تخيلها إذ يدفعنا للتشكيك بالفكرة الراسخة في الأذهان حول تأخر “يوليوس” عن العودة إلى البلاد عشر سنوات بعد انتهاء حرب طروادة، وبينما قدمته “الأوديسة” يعاني الأهوال والويلات في سبيل الوصول لزوجته المحبة “بينولوب” يتساءل ويحرضنا على التشكيك والظن بأنه كان يتعمد التأخر تهرباً من العودة إليها: “لم يعد إلى البيت إلّا بعد عشر سنوات، ذلك لأنه لم يرغب في العودة. لم يكن سعيداً مع بينولوب. لقد اتخذ من حرب طروادة ذريعة لكي يبتعد عنها” حقيقة جديدة يرميها المخرج رينغولد في وجه ريتشارد، بل يشكك في أسباب الوفاء الذي بقيت عليه بينولوب ورفضها الدائم لعروض الزواج من كبار رجالات البلد؛ أهو الحب أم الوفاء أو أنه شيئاً آخر لا يمت لهما بصلة.

الصراع الأساسي سيكون ما بين ريتشارد وأميلي، زوجين جمعهما الحب لكن الاختلاف الفكري والثقافي وربما البيئة أيضاً فعل فعله بينهما، وكما تتآكل الأشياء حين تترك في العراء وتحت العوامل الخارجية ستبدأ علاقة الزوجين بالاهتراء يوماً بعد يوم.

حلم وطموح

هو الصحفي والمحرر الحالم أن يصبح يوماً ما كاتباً مسرحياً حرّاً وهي الفتاة القادمة من بيئة بسيطة فقيرة، تعمل ضاربة على الآلة الكاتبة، وتمتلك في لاوعيها كثيراً من الأحلام والطموحات التي حمّلتها على ريتشارد حين التقته في عملها.

يصف ريتشارد علاقتهما بعين المحب: “كانت إميلي تبدو لي بلا نقائص على الإطلاق وأظن أني كنت أبدو كذلك في نظرها، أو ربما كنت أرى عيوبها وترى عيوبي، ولكن بفعل تحول عجيب معزوّ إلى الحب كانت تلك العيوب تبدو لنا كلينا مغتفرة، بل محبوبة كما لو أنها بدلاً من أن تكون نقائص، كانت مزايا من نوع خاص”، ولكن هيهات فإن للزمن والظروف رأياً آخر..

استمر هذا الحب لعامين اثنين عاش الزوجان خلالها في غرفة بسيطة بأثاثٍ فقير، ولكن بسعادة تامة، إذ غمرته إميلي بالرعاية والاهتمام: “كانت تريد أن تضفي على هذا الأثاث البائس روحها البيتية المنظمة، كان مكتبي مزداناً دائما بالزهور، وكانت أوراقي مرتبة في حب وموضوعة بشكل موحٍ كما لو أنها تدعوني إلى العمل وتؤمّن لي الحد الأعلى من الصميمية والطمأنينة، ولم تكن طاولة الشاي الصغيرة لتفتقر قط إلى علبة بسكويت. لقد كانت إميلي بعد ضربة المكنسة الأولى لربة البيت تُخضع الغرفة لتنظيف آخر، أطول وأدق! ومع ذلك فإن الغرفة المفروشة رغم جهودها المؤثرة كانت تظل غرفة مفروشة”. هكذا كانت الحياة تسير إلى حين حدث اللقاء بمنتج الأفلام “باتيستا” الذي كلف ريتشارد العمل لصالحه في كتابة سيناريو أحد أفلامه التجارية، ورغم أنه لم يكن العمل الذي يطمح إليه كمحرر يتطلع إلى الكتابة المسرحية إلّا أن الأمر كان منقذاً له من أوضاعه المادية المتردية والوسيلة الوحيدة كي يحقق لإميلي حلمها بامتلاك منزل خاص بها، لكن خضوعه لرغبات المنتج إلى حــد كانت تراه مذلاً  دفعها إلى احتقاره واستفزازه واستثارة الغيرة في قلبه. لتنتقل حالة النفور والعداء من الخفاء إلى العلن، ويبرز الخلاف بينهما على السطح، يبدأ الأمر يتوضح حين ترك زوجته وحيدة مع باتيستا، بل وشجعها على مرافقته، وعندما يدعوهما إلى مسكنه، نرى الزوج يقودها إلى مقعدها في سيارة غريمه الذي لم يكن يشك بنواياه ليستقل هو سيارة أجرة، حينها يصبح احتقار الزوجة له مكشوفاً وجلياً.

دوامة التساؤلات

سرعان ما تبدأ العلاقة المثالية بالانحدار على نحو مؤسف، ويبدأ الثلج بالتسلل ليبني جداراً عالياً بينهما، يجعل ريتشارد غير قادر عن التوقف عن لوم نفسه ومساءلتها والتحليل الدائم لمجريات يومياته وإميلي تحليلاً نفسياً عميقاً، يراجع أفكاره ويقلبها ويدخل في دوامة الشعور بالخيبة بعد أن تخلى عن طموحاته وأحلامه فما جنى سوى الرفض والكراهية التي لم يجد لها تفسيراً منطقياً: “لاحظت أن المرء بقدر ما يكون مغموراً بالشك، يشتد تعلقه بتبصر زائف للفكر، على أمل أن يوضح بالحجة ما جعلته العاطفة معتكراً وغامضاً” ورغم تلميحات إميلي التي حاولت تحريضه على التفكير حين سألته بعد حوار طويل بينهما: ما الذي ستفعله إن كففت عن حبك؟ لعله يتخلى عن عمله مع باتيستا إلّا أنه سيقبل بالعمل ثانية والتعاون مع المخرج رينغولد لوضع سيناريو جديد لملحمة الأوديسة في قالب جديد، يدخل المخرج وباتيستا في صراع  صاحب المال مقابل الفنان صاحب الفكر، صاحب المال الذي يريد امتلاك الجمهور بإثارة غرائزه والفنان الذي يرغب في تقديم فيلم كلاسيكي يأسر الذواقة: “سنفعل بالأوديسة ما لم يعرف أونيل أن يفعله بالأوريستي، أن نفتحها كما يفتح جسم بشري على طاولة التشريح، فنفحص حركيتها الداخلية، ونفكك أجزاءها ثم نعيد تركيبها وفق المتطلبات العصرية” يقول رينغولد، ما يفتح الباب أمام ريتشارد لإعادة التفكير بعلاقته بإميلي وتشريحها هي أيضاً ووضعها في مقارنة مع قصص الحب العالمية روميو وجولييت والملحمة التي يعمل عليها.

هكذا وعبر سردية متقنة بلغة وأفكار هي أفكار الكاتب وقد أعارها لأبطاله يستعرض مورافيا بعضاً من الآراء السياسية والحزبية ويقدم رؤيا موسعة لعمل المخرج وكاتب السيناريو، وعبر تسلسل للأحداث قارب الملل وتداعي أفكارٍ مجنون يتجاوز سرعة الحدث فيها، سيدخل الحزن إلى قلب ريتشارد الذي بدا طوال الوقت أنانياً متعالياً تجاه إميلي وقد أوحى إلينا بأنها غير مثقفة تنتمي إلى بيئة بسيطة، حتى أنه لم يدع لها المجال لتقديم أفكارها وشرح مبرراتها بشكل كامل، إلّا أنها سوف تمتلك الوقت لتصدمه يائسة بالحقيقة: “إنني أحتقرك وأشمئز منك” وهو لن يتبين نوايا باتيستا أو أنه غضّ الطّرف عنها، سوف يشك في وفائها له ولن يكتشف الحقيقة إلّا بعد فوات الأوان وبعد أن تقع النهاية المفجعة.

رواية مثيرة للقلق وللاستفزاز معاً، وعلى الرغم من أسلوبها الرّصين والمتأني في وصف كل ثانية من الأحداث، إلا أنها توحي أن مورافيا يتواطأ مع جميع شخوصه وضدهم في آن معاً ما يدفعك لاحتقار الجميع، ولعلها في كثير منها تلامس بعضاً مما نواجهه في حياة كل منا، رواية مليئة بمشاعر الألم والتّرقب التي عاشها أبطال الحكاية لتكون في النهاية المفتاح للكثير من الأسئلة التي تندرج تحت عنوان واحد: إلى أي مدى يمكن للاختلاف الثقافي والفكري واختلاف البيئات أن يتدخل في العلاقات الإنسانية؟!.

بشرى الحكيم