أخبارصحيفة البعث

مع الأحداث مجرد فكرة “طوباوية”

لم تأت فكرة إنشاء جيش أوروبي موحّد من فراغ، بل كانت أمراً لازماً بعد التبدلات الجيوسياسية التي طرأت على الخارطة العالمية، ولعل من أهم أسباب تسريع تطبيق هذه الفكرة هو كسر الرئيس الأمريكي لكل الأعراف الدبلوماسية وانسحابه من معظم الاتفاقيات الدولية التي بنت القارة العجوز كامل مستقبلها عليها.

ومنذ قدوم دونالد ترامب إلى البيت الأبيض شعر الأوروبيون بضغط الشعبوية التي يدعمها ترامب، وهو ما حصل فعلاً بارتفاع الشعور القومي وامتداد الحركات القومية في القارة العجوز، الأمر الذي بات يهدد الكيانات السياسية الأوروبية في وجودها.

ولهذا فإن التبدّل الطارئ الذي سارعت إليه فرنسا وألمانيا لاشك سيغيّر تحالفات أوروبا بعد أن وجدت أن واشنطن تقدّم مصالحها ومنافع شركاتها على مصالح مختلف حلفائها. واشنطن رغم محاولات تحجيم القدرات الأوروبية الاقتصادية، تدرك أن إنشاء جيش أوروبي موحّد سيشجع الصناعات العسكرية الأوروبية وسيحرم الشركات الأمريكية من صفقات بمئات الملايين من الدولارات، كما سيسمح للصناعات الأوروبية العسكرية بمنافسة نظيراتها الأمريكية في مختلف الأسواق الدولية ويخفف من حدة احتكارها لمختلف أنواع التقنيات على الصعيد الدولي، وهو ما يعني بالتالي بدء أفول الهيمنة الأمريكية، ليس بسبب المنافسة الروسية والصينية فقط، بل بسبب بروز أوروبا غير الخاضعة لإملاءات البيت الأبيض، ولهذا يسخر ترامب من الفكرة في كل مناسبة.

في مقابل ذلك روسيا والصين لاتخشيان إنشاء مثل هذا الجيش، لأنه فكرة إيجابية لجهة تعزيز عالم متعدد الأقطاب، أي أن يصبح هناك مركز آخر للقوة، وهذا بالضبط ما تحتاجه روسيا والصين بل وتعملان عليه لتشكيل ميزان قوى جديد. صحيح أن إنشاء جيش أوروبي مستقل مفيد لروسيا على المدى القصير والمتوسط، لأن أوروبا الواقعة في أسر الاتفاقيات العسكرية والايدولوجية يمكن استخدامها ضد روسيا بشكل أسهل بكثير من أوروبا مستقلة، لكن باعتبارها منافساً تاريخياً لروسيا، ستكون أكثر حذراً من أوروبا مدفوعة أمريكياً للسيطرة على العالم. أما على المدى الطويل، فإن ظهور شخصية ذات طموحات نابليونية أو هتلرية في المستقبل ممكن فقط نظرياً، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء حضوره الاحتفالات بالذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى في باريس.

من الواضح أن الأوروبيين دخلوا مرحلة من الأزمة لا يستطيعون معها حتى الدفاع عن مصالحهم الخاصة، ولهذا وقعت فرنسا وألمانيا، المأزومتان في السياسة والاقتصاد، على معاهدة “آخن” الجديدة قبل أيام، وهي تذكّر بمدى ما وصلت إليه أوروبا بعد التدمير الذي لحق بها بسبب الحرب العالمية الثانية.

وهنا تطرح تساؤلات كثيرة حول من يتخذ القرارات، ومن ينظم عضوية المنتسبين، ومن يموّل الكيان الجديد في الوقت الذي لا يلبي مستحقات الناتو إلا 4 أعضاء من أصل 29 فيما يخص إنفاق 2 بالمئة من الدخل القومي على الدفاع؟ لكن ما هو واضح حتى الآن، كما قال رئيس مركز “يوروكونتينينت” للدراسات الجيوسياسية، بيير تومان، أن فكرة قيام الاتحاد الأوروبي بتشكيل جيش خاص به تعتبر فكرة “طوباوية” و”خيالية”.

علي اليوسف