قراءة في القراءة وأحوالها عند الناس
منذ زمن بعيد، ونحن سوريون وعرب نشكو من تراجع القراءة لدى شعوبنا تراجعا مخيفا، مقارنة بارتفاع منسوبها في دول أخرى، غالبيتها أوروبي وأمريكي بشقيها الجنوبي والشمالي، ففي إحصائية أجريت عام 2015، تبين أنه مقابل كل 100 شخص في اسبانيا مثلا يقرؤون كتابا، يقابلهم شخص واحد من قرائنا، وهذه نسبة لا تصيب بالهلع، بل بواجب التعزية بالقراءة برمتها، واللوم يذهب مباشرة نحو القارئ المفترض، الذي لم يعد ينقص إلا أن نسأله بشدة: لماذا لا تقرأ؟
ولكن مهلا لماذا كل هذا اللوم لجمهور القراء؟، إن كان حتى بعض المختصين بشأن خطير كهذا، عاجزين عن التفريق بين نص جيد وآخر لا قيمة له إلا بصف الكلام ووصف ما هو موصوف، وهذا تدل عليه العديد من الكتب والمقالات والأشعار، التي لا تمت لأوصافها بصلة، كيف نريد إذا للقارئ العادي أن يتقبل قراءة ما لا يُقرأ؟ خصوصا من مواد نقدية، ثقافية، فكرية، فنية،–كما تدعي- وهي تخلو من النقد بحالته المتكاملة والسلبية، أو من كتب تصدر بين الحين والآخر، وموضوعاتها غالبا لا تعني القارئ المحلي أولا، فهي ليست على سلم أولوياته، في الوقت الذي يقاتل فيه لأجل “جرة غاز” أو “بدون مازوت” وأحيانا ربطة خبز؟ لماذا عليه مثلا أن يضيع وقته في مقال يحكي عن حقيبة بينها وبين صاحبتها علاقة حميمة، وهي محتفظة بها من طفولتها؟ أو عن كتاب يذهب نحو إعادة رصف أسماء الشعراء أو الفلاسفة، دون تحليل أو استقراء ولا حتى استنتاج جديد لها؟
لرصد هذه الحالة أي حالة القراءة عند الناس، ما علينا إلا أن نكون بين الناس، لنفهم ولنتعرف على الأقل على رأيهم في الموضوع، وإلا فإننا نكتب كلاما طائشا في الهواء.
القراءة بشكل عام
يتكلم د.أكثم وهو طبيب عام، عن هذه الحالة التي جعلته محبطا من شراء الجرائد اليومية لقراءتها فيقول: “دعنا نتفق أن القراءة كفعل هي عادة أولا، تتدرج في النمو والازدهار عند الشخص نفسه، ومن خلالها يمكن لهذا الشخص أن يقوم بنقل عدوى القراءة إلى عدة أشخاص آخرين، سواء من حديثه المتقن، وتعبيره الواضح والبسيط، أو من خلال أهمية الموضوع الذي يطرحه، وغالبا ما تبدأ تلك العملية من البيت، يمكن تسميتها بحالة قراءة عامة، حيث كنت اقرأ كل ما يقع بين يدي، إلا أنني وبمرور الوقت صرت أكثر تخصصا في هذا، خصوصا مع تقدمي في الدراسة، وصار الأدب يغريني أكثر من الفلسفة أو بقية العلوم الأخرى، ويوما إثر يوم وعاما بعد عام، صار لدي مكتبة كبيرة، فيها أمهات الكتب ولأهم الكتاب العالميين والمحليين، قرأت الماغوط بكافة أعماله، ممدوح عدوان، غسان كنفاني، وليم فوكنر، إيزابيل الليندي، ديستويفسكي، طاغور، رسول حمزاتوف، والكثير من القصائد العربية، من العصر الجاهلي حتى قصيدة النثر، إلا أن العمل وتكوين الأسرة، أخذني جزئيا من تلك الحالة التي كانت يومية ولعدة ساعات، فصرت اقتصر على قراءة الجرائد المتوفرة”، يتنهد د. أكثم ويتابع: “منذ أكثر من ثلاثة عقود مثلا، كنت اقرأ الجريدة، خصوصا الصفحات الثقافية كلمة كلمة، وأدون على مفكرة خاصة لدي المواضيع المهمة التي أجدها في تلك الجرائد، لكنني ومقارنة مع جرائد اليوم، بدأت هذه الحال بالتراجع رويدا رويدا، فلا المقال الذي كان يثير كل حواسي بقي موجودا إلا صدفة، والصفحة التي كنت استمتع بقراءتها لأكثر من ثلاث ساعات، لم تعد تغريني إلا بقراءة عنوان على الأغلب، فأغلب المكتوب اليوم، إما مكرر حد الاستهلاك، أو أنه بلا أي فائدة ما عدا حشو الكلام، واستطيع أن أقدم لك أكثر من مئة شاهد على كلامي، هذا وأنا الطبيب الذي ترعرع في بيت كان من حسن حظه أن وجدت فيه الكتب بقرية بعيدة ونائية، فما بالك بأولئك غير المعنيين بها، خلال فترة دراستي كانت الجرائد هي أول ما اشتريه من مصروفي الشخصي الذي كان للمواصلات وربما لكأس شأي أو “سندويشة”، لكن ما عليك سوى التوجه نحو كلية الإعلام نفسها التي تدرس بها ابنتي، حتى ترى أن حتى طلاب هذه الكلية لا يقتنون جرائد بلدهم المحلية! ألا يجعلنا هذا نقف وقفة تأملية عند المآلات التي صارت عليها حال جرائدنا اليوم، التي كما قلت هي المفتاح الأنسب لعوالم القراءة، فأنت من خلال مقال قيم يقدم كتابا ما، يصبح لديك هاجس قراءة الكتاب نفسه، لكن هذا الحال تراجع وبشكل مخيف بعد أن أصبحت حتى الكتابة بالواسطة، أقولها وعلى مسؤوليتي الشخصية، توجد مقالات تُسمى ثقافية، وهي لا تمت لا من قريب ولا من بعيد للثقافة بصلة”.
القراءة وأمراض وسطها
هذا ما تجده السيدة سوسن “ربة منزل وجامعية سابقة”، أن حال تراجع القراءة لا يُلقى بأكمله على كتف القارئ، فالعملية الإبداعية، عملية تفاعلية وتكاملية بين القارئ والكاتب، وعندما يكون المنتج (الإبداعي) أيا يكن ركيكا، فهذا دون أقصى شك سيبعد القراء عنه وينفره من القراءة عموما، تقول سوسن: “والدي الذي كان يفاخر بي أبناء العموم والأخوال بسعة اطلاعي ومعرفتي، كان هو السبب الأول في توجيهي لأكون قارئة مخضرمة، حتى لما هو خارج اختصاصي كخريجة من قسم التاريخ، فكان كل يوم يحضر الجرائد للبيت، وكانت متعتي العالية، أن أجلس أنا وتلك الجرائد بعد أن ينتهي من قراءتها، لأقراها بحبور لا يصدق”، تصمت قليلا وتتابع حديثها عن مرض معد أصاب أيضا الصفحات الثقافية في جرائدنا المحلية التي هي من يمكن أن تشد الإنسان للقراءة وتقول: “لم تكن الشللية التي تصيب الجسد الثقافي اليوم، موجودة بهذه الكثرة والوفرة قبلا، عدا عن التراجع المحبط لنوعية الكتابة نفسها، وكل ما تحتاجه لتعرف إن كانت تلك المنابر مصابة بهذا الداء أو لا، هو قراءة العديد من المقالات الثقافية والفكرية والفلسفية-كما يفترض- التي تُنشر اليوم، حتى تجد الضحالة في الفكرة أولا، ثم الركاكة في اللغة ثانيا، عدا عن عدم تطور الأسلوب عند هذا الكاتب أو ذاك، وحين حاولت التواصل مع بعض تلك الصفحات، وجدت أنها ليست معنية لا بالقارئ ولا بغيره، فما يحدث أن كل يغني على ليلاه، شللية تقصي القلم الجيد لصالح القلم المكسور، مقالات لا يعرف العديد من كُتابها صياغة أفكارها بسلاسة تجعلني كقارئة لا أدع حرفا منها يفوتني”، توجهت سوسن نحو الكتابة وقامت بتأليف كتاب يُعنى باختصاصها إلى إحدى الجهات المعنية بالأمر، الكتاب الذي جلست لأكثر من عام وهي تشتغل عليه، لكنه لم يرَ النور هنا، في حين أنها وجدت كتبا، يمكن أن تسميها حسب وصفها من جهة الشكل بالكتاب، تقول: “العديد والجم من تلك الكتب، مضمونها يكاد يصيب بالغثيان، معلوماتها سطحية وبائتة، أفكار مكررة، سرقات من هنا وهناك، حشو بلا طائل، وعندما توجهت إلى دار نشر في بلد عربي مجاور، فوجئت بأن الدار قررت أن تطبع الكتاب على نفقتها، بل مع إعطائي نسبة لا بأس بها من عوائده، الأمر الذي يجعلك تسأل: ترى من هم القراء المختصين الذين لم يجدوا أهمية لنشر كتاب يذهب نحو تشخيص حالة مهمة في التاريخ وهي كتابته، وبالمقابل وجدوا أن كتابا للأبراج أو لوصفات الطعام وللعديد من المواضيع الساذجة، يصلح للطباعة، وعندما تقرأ أسماء أصحاب تلك “الألياذات” تعرف السبب ويبطل العجب”.
القراءة ترف
جيل اليوم لم يكن سؤاله مجديا إلا ما رحم ربي، فثقافته كلها قادمة من عوالم النت، وهي بعمومها ثقافة عناوين أكثر منها ثقافة فعلية، رامي طالب في أحد المعاهد قال: “للأسف القراءة لدينا مرتبطة بالتحصيل العلمي، الذي بدوره مرتبط بالعمل، هل تريدني أن أدع قراءة مقرراتي وهي ليست بالسهلة أبدا، لأقرأ ما لن يفيدني في حياتي العملية؟ ثم من يهتم بك اليوم إن كنت مثقفا وقارئا واعيا أو لا، الكلام اليوم للواسطات، ويمكن للجاهل الذي لا يعرف الفرق بين نص جيد وآخر بلا مضمون، أن يكون مسؤولا عن النشر في دار نشر ما أو في الجريدة اليومية وحتى في عوالم الكتاب، ثم ما حاجتي للقراءة وأنا استطيع بكبسة زر الحصول على المعلومة التي أريدها” قالها وهو يشير على جواله.
عالم اليوم تغير 180 درجة عن عالم البارحة، وما كان قيما في الماضي القريب، صار مهملا ولا يوجد إقبالا عليه، وهذا ما يمكن رؤيته في معارض الكتاب التي تُقام وبكثرة لدينا، سواء من عدد زوارها، أو بنوعية الكتب التي يخرجون بها من تلك المعارض، حتى كُتّاب اليوم الذين يعيد معظمهم ما تم تقديمه وبوفرة في الماضي، هم كُتاب طارئين على هذا المشهد، هذا عدا عن الأمراض السرطانية التي هي من مسببات هجرة الناس القراءة، كالشللية مثلا، وعدم المهنية وهيمنة الواسطات على الموضوع، وفي هذه حدث ولا حرج.
تّمام علي بركات