الاحتفاء بها.. احتفاء بالحياة
لحكمة ما كان لعيد الأم أن يأتي مع قدوم الربيع، إذ كليهما يحمل معنى العطاء وفي كل منهما صورة للجمال لا تضاهى، تجسيداً للحب والخصب والإبداع العفوي بصوره المتعددة، ما يجعل منه يوماً للاحتفال ليس بورود تفتحت أو ثمار لاحت تباشيرها أو بالأم تحديداً، بل هو يوم للاحتفاء بالحياة ذاتها، بقيمها الإنسانية في أعمق معانيها، الأمر الذي جعل الموضوعين أهم ثيمات تناولتها أقلام المبدعين والكتاب، فتعددت صورة الأم في الرواية والقصة، كانت الرقيقة العظيمة، القوية في ضعفها، الحاضنة الحانية والقادرة على البناء والحماية في غياب الأب كما في روايات نجيب محفوظ، وأتت أجمل رمز للأرض في عطائها وخصبها ووجوب الذود عنها في الأعمال حاملة القضايا الكبرى وهموم الأوطان كما في “أم سعد” رواية غسان كنفاني التي لا تغيب عن الأذهان، وقدمتها مي منسى جدّة صبورة تكبر على مآسيها المتتالية، تصر أن تكون رمزاً عميقاً للقدرة على التمسك بالأرض تختزن آلامها عبر الزمن بانتظار أن ترى الثمار في الأرض والأبناء.
ولكن يبقى للشعر خصوصيته في القدرة على تناول هذا الرمز، وتقديم تلك الأسطورة الحية بكل قدسيتها ونقائها، وكما نود أن نكون أو نرى، ألم تكن الملاك الأبدي في “الصلاة” التي تلتها فيروز:
أمي يا ملاكي/ يا حبي الباقي إلى الأبد/ ولا تزل يداك أرجوحتي/ ولا أزل أنا ولد
وارتبطت بحنين قاتل إلى طفولة وزمن يعبق بالبراءة لا يمكن لها أن تعود إلا باحتضانة منها، يؤجج الحنين إليها أن يرى محمود درويش ثورة أمه في وجه جنود الاحتلال حين حاولوا منعها عن رؤية ابنها في السجن فيسيل حبر الكلام وينحني لها وقد أضحت بطلة قصائده تشده إليها لمسة حانية منها، وعاطفة نقية لا تعلوها عاطفة، وحياء من دمعها- تُراها تشرقُ شمسٌ إن سالت من عينها!:
أحن إلى خبز أمي/ وقهوة أمي/ ولمسة أمي/ وتكبر فيَّ الطفولة/ يوماً على صدر يوما/ وأعشق عمري لأني/ إذا مت/ أخجل من دمع أمي.
بينما بقي نزار قباني رغم سنوات عمره التي تطوي الزمن ويقارب الشيب رأسه، بقي طفلاً شديد التعلق بحضن أمه يكتب لها أجمل قصائده:
عرفت عواطف الإسمنت والخشب/عرفت حضارة التعب/ وطفت الهند طفت السند طفت العالم الأصفر/ ولم أعثر على امرأة تمشط شعري الأشقر/ وتحمل في حقيبتها إليّ/ عرائس السكر/ وتكسوني إذا أعرى/ وتنشلني إذا أعثر/ أيا أمي.. أيا أمي/ أنا الولد الذي أبحر/ ولا زالت بخاطره/ تعيش عروسة السكر/ فكيف.. فكيف يا أمي/ غدوت أباً/ ولم أكبر.!
يناجيها فنسمع في نجواه نداءً للوطن ويستصرخ البلاد فنراها طيفاً ساكناً بين السطور:
يا سيدتي المغزولة من قطن وغمام/ يا أمطاراً من ياقوت/ يا أنهاراً من نهاوند/ يا غابات من رخام/ يا سيدة العالم/ لا يشغلني إلا حبك في آتي الأيام/ أنت امرأتي الأولى/ أمي الأولى/ رحمي الأول/ شغفي الأول/ شوقي الأول/ طوق نجاتي في زمن الطوفان.
أما الشاعر البردوني فلم يجد سواها ملاذاً يدفن فيه حزنه على رحيلها، ذلك الذي نقرأ عبره هماً أكبر وأشمل فيكونا واحداً في الفقد والغياب:
“تركتني ها هنا بين العذاب/ ومضت، يا طول حزني واكتئابي/ تركتني للشقا وحدي هنا / واستراحت وحدها بين التراب/ حيث لا جور ولا بغي ولا / ذرّة تنبي وتنبي بالخراب/ حيث لا سيف ولا قنبلة/ حيث لا حرب ولا لمع حراب/ حيث لا قيد ولا سوط ولا / ظالم يطغى ومظلوم يحابي/ آه يا أمّي وأشواك الأسى/ تلهب الأوجاع في قلبي المذاب/ فيك ودّعت شبابي والصبا / وانطوت خلفي حلاوات التصابي/ كيف أنساك وذكراك على/ سفر أيّامي كتاب في كتاب/ إنّ ذكراك ورائي وعلى/ وجهتي حيث مجيئي وذهابي”.
ويضيف حافظ إبراهيم إلى قدسيتها ذلك الأثر التربوي فيخرج بها من أسر صورة نمطية تقليدية في تأدية واجباتها تجاه الرجل والأبناء، ويحملها الدور الأساس في البناء الحقيقي والسليم للأوطان:
الأم مدرسة إذا أعددتها/ أعددت شعباً طيب الأعراق/ الأم روض إن تعهده الحيا/ بالري أورق أيّما إيراق/ الأم أستاذ الأساتذة الأُلى/ شغلت مآثرهم مدى الآفاق.
ولكن.. تبقى أم الشهيد رغم قدسية كل أم وفي أبسط حالاتها، هي الأعظم والأجمل في عطاء هو الأنبل، وتلك أمثولة مختلفة بين الأمهات تقدم أغلى ما في حياتها فداء للأم الأولى للأرض للوطن فيحق لها أن تكون أجمل الأمهات في الكِبَر والفخر، واللواتي كانت لهن قصيدة ابن بلدة الخيام الجنوبية الشاعر اللبناني حسن عبد الله:
أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها/ أجمل الأمهات التي انتظرته/ وعاد مستشهداً/ فبكت دمعتين ووردة/ ولم تنزو في ثياب الحداد.
وهل أحق من أمهاتنا بالانحناء اليوم وكل يوم، سواء التي كانت الشهيدة أو أم الشهيد، أو التي انتزعتها الحرب من بيتها، وتلك الفاقدة رفيق دربها، والثكلى التي يقتلها رحيل ابن أو أخ، أمهات يعشن الخوف والخشية كل يوم على نسر هنا وآخر هناك يحلق عالياً يحمي الأرض والسماء.
فلهما وقد ابتدأت بهما الحياة، للأم العيد وللبلاد، للأم الأولى سورية أغلى الأعياد.
بشرى الحكيم