الفنون وشاشات الحروب اللامعة
في الحروب عموما وكما درجت العادة في مختلف بلدان العالم القوية، تكون الفنون والآداب والإعلام، في حالة تعاضد وتكامل مع بعضها البعض، وبتنسيق عال، كل يقوم بدوره على أتم ما يكون، حتى في حالة المواجهة والتواجد في الخطوط الأولى للحرب، ونحن يوميا تقريبا ومنذ بداية الحرب، نُقر ونعترف، بأن حربا إعلامية بأنواعها شنت وتشن علينا، لا تقل هوادة عن هذه الحرب، فالفنون والآداب والدعاية والمكنة الإعلامية تحارب وبشراسة في الحروب، ودورها لا يقل أهمية عن دور الجندي بساحة المعركة.
الأمثلة في العالم كثيرة على هذه الحال، ففي أمريكا مثلا، اشتغلت السينما الأمريكية، والبرامج التي ظهرت على شاشاتها وشاشات العالم تقريبا، واقنيتها الأرضية والفضائية، وفي إذاعاتها وجرائدها، منذ الحرب العالمية الثانية، وحتى حرب فيتنام مرورا بما قامت به من الحروب التي خاضتها لاحقا، كحربها في “أفغانستان” وصولا إلى حرب العراق، التي قُتل فيها مليون عراقي وشردت أكثر من 10 ملايين من أهله، بينما أفلامها وموسيقاها وحتى إعلاناتها، ذهبت وبشكل موارب حينا وفج ودعائي أحيانا أخرى لخدمتها، وتمهيد الطريق لها، وبالدرجة الأولى تلميعا لواجهتها الدولية، لظاهرها المتحضر والراقي، وذلك من خلال الفنون بأنواعها وكذا الأمر بالنسبة لإعلامها، بينما أيدي جنودها غارقة بالدماء، هذا بعد ما فعلته من غسل عام للعقول، بما يسمى “الحرب الناعمة”، فمثلا في حربها مع فيتنام، قدمت هوليود المرتبطة بالبنتاغون كل الارتباط، واحدا من أهم أفلامها وهو “القيامة الآن” تدور أحداثه خلال حرب فيتنام، وهو بظاهره يقدم حكاية بسيطة، لكنه من خلال الأحداث التي تجري في الفيلم، يمرر أكثر من رسالة مبطنة للعالم، بأن أمريكا هي الدولة الأقوى، وبأنها صاحبة الحق بما تفعله حتى لو كان الباطل يحيط به من كل مكان، أيضا إنزال النورماندي مثلا، الذي صار من أشهر حكايات الحرب العالمية الثانية زورا وبهتانا، لا بسبب ما جرى فيه من بطولة يدعيها المارينز، بل لكثرة الأفلام والمقالات والكتب والأغاني التي جعلته عظيما مقارنة بما فعل الشركاء في الحرب، حتى صار في الوعي العام، إن إنزال النورماندي هو سبب انتصار الحلفاء على النازية!
أهل الغناء والفن والإعلام عموما، ذهبوا إلى ساحات الحرب على متن آلات عسكرية، لرفع معنويات جنود بلادهم، وذلك بإشعارهم أن أشهر أهل الفن، يتمنون أن يكونوا بين جنود بلادهم، وهذا يدل على كونهم يشعرون ويصدرون للعالم، بأن الأمان الحقيقي هو حيث يكون جيشهم، وهي رسالة وصلت للعالم كله، خصوصا عندما ظهرت على مختلف شاشات التلفزة في العالم، المغنية الشقراء الشهيرة مارلين مونرو، في أبهى حالاتها، هابطة إليهم كما الملائكة من السماء، تغني لهم أجمل أغاني الحب وأرقها، إن أهم الفنانين في البلاد، يغنون ويرقصون لجيش بلادهم حيث يحارب، وهذا يعني أنه جيش قوي، أو هذا ما تقوله الرسالة المراد توجيهها، بينما الجندي الأمريكي في الحقيقة لا بالأفلام، من اجبن الجنود في العالم، فهو ورغم أنه يمتلك أحدث الأسلحة، جندي جبان، يختبئ خلف الكاميرا، التي تُظهره ورفاقه فرسانا، ولو كانوا في الحقيقة كذلك لما احتاجوا لإظهار هذا في الإعلام بمختلف أنواعه، الإعلام الذي ينتقد سياسة دولته ظاهرا، ويقدم ما فيها من عيوب، ورغم ذلك لا ينسى أن يُذكر العالم بقوة جيش بلاده، وقدرته على قلب الحقائق لصناعة رأي عام محلي وعالمي “بربوغندا”، فعندما تقوم وسائل الإعلام على أنواعها، بممارسة النقد في مختلف الشؤون الحياتية زمن الحرب، فهذا أيضا يعزز الرسالة الإعلامية التي تقول: “أقوياء في حروبهم الخارجية، وأقوياء في الداخل”، أما السبب البعيد والحقيقي، فهو التغطية على المجازر الفظيعة التي ارتكبتها دولة الكاوبوي الأرعن، بحق العديد من البلاد، أفلام سينمائية بأنواعها، وأخبار كاذبة مصنوعة بحرفية عالية، للتعمية على توحشها، كإبادة هيروشيما بعد أن قصفتها بلاد العم سام، بقنبلة نووية أماتت فيها حتى الحجر، أيضا الأفلام والوثائقيات المزيفة التي تبين زيفها فيما بعد، بكونهم أول من صعد إلى القمر، وهذه كذبة شارك فيها حتى رئيسها!.
اليوم من يتابع البرامج والأفلام المنوعة التي تبثها المحطات (العربية) الخاضعة للدولة “البلطجية” ومنذ أكثر من 10 سنوات، والتي هي من أهم المحطات وأكثرها متابعة في العالم العربي، نظرا للتمويل الضخم الذي يقف خلفها، سيلاحظ أنها تستخدم الأسلوب نفسه وتتبعه بحرفيته في قنواتها ومنصاتها الإعلامية المرئية والمقروءة ذاتها، عربية كانت أم أجنبية، وهي للأسف على كذبها وريائها، أكثر متابعة من كل ما تقدمه محطاتنا التلفزيونية، خاصة كانت أم عامة مجتمعة، فهي تعمل لتُظهر من ورائها، بكونهم أهل فن وثقافة لا أهل مناشير وتقطيع! وما البرامج الجاذبة التي يتم البذخ عليها، إلا واحدة من تلك الأساليب الناعمة، خصوصا وأن هذه القناة التي تقدم الوجه المشرق عمن تريد، ممولة من نفس المصدر الذي تبيد طائراته أطفالا ونساء وشيوخا في اليمن وغيرها من الدول العربية، ما يجعل الجانب الفني والثقافي الذي يتم تقديمه فيها، في خدمة البشاعة التي تقترفها في المنطقة العربية، ودعونا لا ننسى كم انساق العديد من السوريين وراء خطابها الرجعي، ورفعوا السلاح بوجه أخوتهم، نظرا للكراهية التي حملها هذا الخطاب وبشكل مستمر.
العلاقة قوية دائما بين الآداب والفنون عامة مع الإعلام في حال الحروب، هي حقيقة لا يأتيها الباطل لا من خلفها ولا من أمامها، ومن الطبيعي أن يكون هذا الثالوث أكثر فاعلية في فترة الحروب منه في فترة السلام، لكننا إن نظرنا إلى واقعنا فإننا سنجد، أن جيشنا الذي حارب ويحارب العالم كله تقريبا، مُحارب إعلاميا بشراسة قل نظيرها حتى اللحظة، فهل استطعنا أن نرد عنه فعلا هذه الحرب القذرة سواء في الفنون أو الإعلام؟
تمّام علي بركات