لماذا سوريّة اليوم أفضل؟
ليس فقط المسألة من قبيل “تفاءلوا بالخير تجدوه”، بل هي من قبيل الحقيقة ومعطيات الواقع، فهناك اليوم جنوح عارم ومتسارع في المجتمع السوري بفعالياته الفكرية والاجتماعية والحزبية والسياسية والروحية… نحو التمسك بوحدة الأرض والشعب، وتعزيز القيم الوطنية برموزها المعروفة والشامخة، والتي لم يستطع العدوان على سورية أن يقوّضها. كما لدينا اليوم عمل حثيث ينطلق ليس من الأصول والتقاليد الوطنية والعروبية العريقة فحسب، بل ومن ضرورة ردة الفعل الناجزة على الاستهداف الغاشم والمؤذي بلا شك.
ويُغني عن المقدمات – في هذا السياق – حديث السيد الرئيس بشار الأسد أول أمس في افتتاح “مركز الشام الإسلامي الدولي لمواجهة الإرهاب والتطرف”، الحديث الذي يشكّل نقطة تحوّل فاصلة وتاريخية في مواجهة العدوان على سورية شرط أن تتمكن المؤسسات من استلهام أبعاده وأهدافه، ومنطلقاته – أو خلفياته إن شئت – النابعة من معاناة، ومعاينة، وتدقيق في الواقع الذي أنتج الأزمة، وفي الوقائع التي نتجت عنها، وأفرزت هذا الصمود والتحدي الذي عزّ نظيره والذي يُستحسن أن تراهن عليه الشعوب العربية والإسلامية، بل كل الشعوب المتطلّعة إلى رفض التدخل والمؤامرة على هويتها ووعيها ومصيرها وسيادتها.
تشكّل مفردات الحديث “مقولات” بالمعنى الفلسفي للكلمة تندرج في سياق فكري واجتماعي ذات دلالات معجمية معطاء، ثرّة، وبنّاءة تصدّع، بل تجهز على ثقافة الارتزاق التفتيتية المتكئة على سياسات البترودولار التخريبية.
مقولات بمثابة مصطلحات معرفية ذات مرتكزات سوسيولوجية تنطلق من ضرورة تفكيك وتشريح الذهنية السائدة خلال الأزمة في سبيل إعادة بناء للمفاهيم، إعادة مرتبطة بالمعرفة من جهة، وبالمجتمع، من جهة ثانية، ما يضفي عليها مزيداً من الحيوية والتألق، والتفاؤل أيضاً. فالتفكيك أو التشريح في هكذا ظروف حداثة، وضرورة تفرضها الحاجة إلى الخروج من الحروب، هذا الخروج تحتاج المجتمعات والدول بعده إلى “ما بعد الحداثة” لا إلى التخلّف والرجعية، وهذا من الشروط اللازمة لإعادة البناء والإعمار المعنوية.
كان الحديث الديناميكي مبنيّاً بناء توافرت فيه الوحدة الموضوعية، والوحدة العضوية في وقت واحد، وهذا لا يتم تحقيقه بسهولة. وفي هكذا ظروف ثقيلة الوطأة على النظرية وعلى الممارسة، على السياسي وعلى الفكري وعلى الاجتماعي، وعلى الديني الذي كُتب عليه أن يعاني معاناة مزدوجة ومريرة ومتفائلة في وقت واحد، لأن الديني كنسق أو كأفراد أو كمؤسسة، كنقل أو كعقل.. كُتب عليه أن يتحمل ما لا يُحتمل، ولا سيما حين أُلقي عليه بثقل كبير في مواجهة الصدع المجتمعي الهادف إلى العصف بالتماسك الاجتماعي، وبالوحدة الوطنية، فاستُهدف من خلال إيلاء المتآمرين الأهمية الكبرى لاستهداف الحامل الديني في البنية الاجتماعية الوطنية والعربية والإسلامية. وكان حديث السيد الرئيس مخرجاً واسع الأبواب لأزمة الفرد والمجتمع والوطن والأمة.
قدّم السيد الرئيس “مقولات” محددة واضحة في مدلولات، ومفهومات، ومآلات: التديّن والتعصّب، ثنائية العلم والدين، العلمانية بين الدين والإلحاد، العقيدة والممارسة، قانون الأحوال الشخصية وقانون وزارة الأوقاف… إضافة إلى رأي سيادته في مفهوم الآخر، وهو مفهوم “حداثوي” بكل ما للكلمة من معنى، ولم يصدر في حديثه عن رؤية حزبية أو إيديولوجية، بقدر صدوره عن رؤية ذات بعد معرفي، وهي ليست فرضية ولا مفروضة، بل ديمقراطية، المركزية فيها هي الوطنية والعلمية.
ويلاحظ المتابع لوسائل التواصل الاجتماعي أن هذه المقولات كانت هاجساً وسجالاً ومادة للخلاف وللاختلاف حتى بين الوطنيين أنفسهم بمختلف تياراتهم الفكرية والسياسية، وقطاعاتهم الاجتماعية أيضاً.
فقد واجه السيد الرئيس في سرديته الوطنية والمعرفية الإشكالات نفسها التي طالما أربكت شرائح واسعة من الأكاديميين، والإعلاميين، والحزبيين.. العلمانيين منهم والمتدينين، ولا سيما حين عمد البعض إلى تعزيز المفارقة بين العلماني والمتدين… وهنا توسّع سيادته إدراكاً لضرورة جسر الهوة التي أحب كثيرون أن يلقوا بأنفسهم في قيعانها… وكان هناك حاجة إلى الحسم درءاً لتلذذ البعض بتداعي السجال في هذه الحلبة المقيتة دون جدوى، فـ”قرر” على سبيل المثال أن “التطرف الديني ليس منتجاً دينياً بل هو منتج اجتماعي” مستنداً في هذا ليس إلى قرار تنفيذي، بل إلى معطيات العلوم الاجتماعية من جهة، وإلى الواقع والمصلحة الوطنية من جهة ثانية، فكانت الوطنية أرقى وأعز سرديّة، لأنها في هذا السياق لا تترك عذراً للمغرر بهم، ولا قبولاً اجتماعياً أو وجدانياً للذين يراهنون على ثقافة الارتزاق في فنادق وبلاط البترودولار.
والحقيقة يلزمنا لنجيب على “لماذا سورية اليوم أفضل؟” أن نُدرك أن الحديث عميق، وقيمته الفكرية عالية، وبالتالي هو يستحق، ويستدعي إعادة قراءة، وإنتاج. ففي آفاقه تنطلق عجلة العمل لسورية أفضل، ويدور في الوجدان حوار داخلي ثرّ وواعد، ومطمئن أيضاً.
د. عبد اللطيف عمران