ثقافةصحيفة البعث

الخيانـــــة أشـــــد مــــــن القتـــــل

أشارت لي أمي بيدها لأقترب أكثر من أذنها حيث كانت ترقد في المستشفى، وطلبت أن أفشي لها سراً حتى تصفح عني قبل أن يأخذ الله أمانته، فكرت بسرعة وكان العرض مغرياً جداً فتحدثت إليها عن ذلك اليوم: في العاشرة من عمري تعلمت أول أسلوب للكذب، لقد كذبت كذبتي الأولى وكانت فاتحة لعدة كذبات قمت بها إلى أن أصبحت رجلاً وتماثلت لانتهاج المكر والخديعة حتى أمارس خيانتي بمتعة مطلقة، قد لا أشعر بعدها بأي ندم مهما كانت النتائج وخيمة لأنها تحولت إلى حق وضرورة.

خيانتي الأولى كانت الأكثر فداحة في تاريخي، بعد أن استيقظت وقمت بتحضير الطعام وتوضيبه في حقيبتي المدرسية، ثم ألبستني ثياباً نظيفة وأعطيتني خمس ليرات كي أشتري قطعة حلوى ذهبت إلى المدرسة وكنت وحيداً أفكر فيما لو أن الأرض تنشق لتبتلعني قبل وصولي إلى مقعدي في الصف الأول، وفعلا عدت أدراجي قبل باب المدرسة بأمتار وصعدت إلى سطح احد الأبنية المجاورة وجلست أنتظر هناك إلى حين انتهاء النهار المدرسي وعودة الطلاب إلى بيوتهم.

انتظرت وقتاً طويلا ومملاً قمت خلاله بأكل الطعام الذي وضعته في الحقيبة -الذي كان من المفترض أن آكله في المدرسة- وقضيت كل الوقت بالنوم المتقطع، ثم المشي جيئة وذهاباً.. اتسخت ثيابي المرتبة وتشققت بسبب جلوسي على الأرض الخشنة. كل هذا ولازلت مصراً على أن السطح أقل مشقة من المدرسة، وقلت في خاطري لو علمتِ بهذه المصيبة لأحسستِ بالخيبة الكبرى.

في مطلع مراهقتي أغرمت من طرف واحد بصبية تدعى فاطمة، كانت لطيفة وبريئة وجميلة، وكالعادة أحببت الثانية والثالثة والرابعة الخ.. خيانات متراكمة فوق بعضها أطاحت بفاطمة حبيبة القلب.

زوجتي هي الأخرى، وبالرغم من أنها من أسرة معروفة في القرية ولهم عظمة شأن ومقدرة، كان من الضروري أن أكون حذراً في تحركاتي العاطفية غير الشرعية، لكن ذلك مرهقاً للغاية إلى درجة أني لبست عباءة بيضاء وادعيت الزهد والتقشف، ومع ذلك، غصت في وحل الخيانة حتى ابتلت أذناي.

استفاق الخوف.. أردت التوبة، أو بالأحرى تخليص نفسي من الشرور على حد تعبير فتحي الواعظ، فأنا مسكون.. مسكون. كان لفتحي خبرة بالغة بتحويل الماضي المستتر إلى حاضر مزدهر ومستقبل باهر، لا أعلم كيف، لكنه كان بارعاً باستخدام الكلمات السماوية لتناسب أفعالي الدونية، وعلى حد تعبيره، فإن لكل داء دواء ولكل مشكلة حل.

دخلت البلاد السنة الثانية من أزمتها ولم أستطع بعد اختيار الصف المناسب لتوجهاتي الفكرية والعقائدية. كان الأمر أشبه بالانتحار بالنسبة لي، فليس الأمر شهوةً تتطلب إشباعها ولا هو مجرد اتخاذ موقف ما والسلام، لكن مصلحتي غلبت كل حالات الصراع في داخلي والهرب كان أول أهدافي إلى ذات الماضي.

الشهوة ولد صغير يكبر كل يوم ويصبح شاباً ورجلاً ثم شيئاً فشيئاً يشيخ ويخبو، وكلما أطعمتها ستزداد قوة وجسارة، و كلما تنوعت طرق الإشباع ومحله ازدادت سمنة وضخامة، على مبدأ العناية بالشهوة. أما الخيانة فليست حالة، وليست شهوة وليست رغبة بحد ذاتها،هي الدليل الوحيد على أن الخائن أراد تغيير ملامحه البشرية والنزول أكثر باتجاه الحيوانية.

قد لا تحقق الخيانة إشباع شهوة ما أو الاستفادة من ظرف ما للوصول إلى نتيجة ما، الخيانة تحصل كرمى لعيون الخيانة، لكن بالرغم من ذلك سيشعر الخائن بأنه على حق مهما بلغ من الدناءة، وبكل ما أوتيت من خيانة أمضي قدماً وأقول لنفسي، لا لست خائنا.

قالت لي أمي قبل رحيلها عن هذا الكوكب ببضع دقائق: “إن الكذب والد الخيانة.. أما فتحي فهو جدهما وقد فقدت شهيتي على الصفح يا ولد”.

المثنى علوش