خيارات إيران الاستراتيجية
ترجمة وإعداد: لمى عجاج
في خطوة مفاجئة أعلن وزير الخارجية الإيراني في زيارة غير مقررة وغير معلنة لباكستان يوم الخميس 23 أيار الماضي طرح اقتراح لربط ميناء جوادار الباكستاني بميناء جابهار الإيراني، ما ينذر بتحول جغرافي تكتوني يحدث في المنطقة في أعقاب التوترات المتزايدة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة بعد أن واصلت الولايات المتحدة ضغطها على الهند التي حاولت أن تتخذها كحليف جديد في جنوب آسيا لتجبرها على إلغاء مشترياتها النفطية من إيران.
تأتي أهمية ميناء جابهار من كونه الميناء الإيراني الوحيد الذي يحظى باستثناءات من العقوبات الاقتصادية الأمريكية، لذلك كان من المنطقي بما فيه الكفاية بالنسبة لإيران أن تقوي أواصر الترابط مع الجارة، وخاصة أن الهند هي دولة متحالفة بالأصل مع الصين، وتسعى لتقوية علاقاتها الاقتصادية مع إيران لزيادة التواصل الإقليمي، ومع ربط ميناء جابهار وجوادار سيكون لدى إيران حليفان رئيسيان إلى جانبها: الباكستان والصين، وسيكون برنامج التواصل الإقليمي الذي تعمل على تنفيذه مع الصين في حال أفضل بكثير مما هو عليه الآن، وهذا ما أكد عليه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، فعلى حد تعبيره أن جابهار هي نقطة التقاء دول المنطقة: باكستان وإيران والصين التي تستطيع أن تلعب دوراً مهماً في تطوير الدور الاقتصادي، وقال: “نحن نعتقد أن جابهار وجوادار يمكن أن يكمل كل منهما الآخر عبر الربط بينهما، وبذلك نربط جوادار بكامل نظام السكك الحديدية لدينا من إيران إلى الممر الشمالي عبر تركمستان وكازاخستان، وكذلك عبر أذربيجان وروسيا وتركيا”.
باكستان صرحت بأنها سوف تكون على الحياد فيما يختص بالتوتر الحاصل في العلاقات الأمريكية- الإيرانية، وبأنها لن تكون طرفاً في هذا الصراع، لذلك كان موقف باكستان الحيادي أكثر توافقاً مع طهران مما كان عليه مع الولايات المتحدة، هذا إذا كان هناك توافق بالأصل، كما أن هذا الاقتراح لم يكن يتعارض أبداً مع المصالح الصينية، بل على العكس كان اقتراح طهران بالربط بين الميناءين بالتشاور مع الصينيين الذين يديرون الميناء عملياً في باكستان، كما أن جواد ظريف وقبل وصوله إلى باكستان التقى مع نظيره الصيني في الصين وتباحثا جدياً بشأن هذا الاقتراح إلى الحد الذي دفع وزير الخارجية الصيني إلى “الترحيب بإيران” لتكون طرفاً مساهماً بشكل فعال في عملية البناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق من خلال جابهار، وشدد على وقوف الصين إلى جانب إيران ودعمها لها، وقال وانغ يي: إن بلاده تعارض فرض العقوبات الأحادية، وما يسمى “بالصلاحيات العابرة للحدود” التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، متعهداً بالحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة، وأضاف بأن بلاده تدعم الجانب الإيراني في دفاعه المشروع عن حقوقه ومصالحه.
لقد تجلّت جدية هذا التأييد بشكل واضح قبل أيام قليلة عندما غادرت ناقلة النفط الصينية باسيفك برافو الخليج العربي بمليوني برميل من النفط الخام الإيراني الخفيف، متجاهلة العقوبات الأمريكية والأحادية الضارة التي تنتهجها، باسيفيك برافو المملوكة لبنك كونلون هي مؤسسة مالية مملوكة لشركة النفط الصينية الحكومية سي ان بي سي كابيتال، البنك الذي لطالما كان القناة الرسمية الرئيسية لتدفقات الأموال بين الصين وإيران، ولعب دوراً مهماً في العلاقات التجارية بين البلدين، إلى الحد الذي دعا إدارة أوباما إلى فرض عقوبات على الشركة خلال فترة رئاسته، وعلى الرغم من فعالية دوره، اضطر بنك كونلون إلى إيقاف أنشطته المتعلقة بإيران في أوائل أيار الماضي بعد أن تم إلغاء تنازلات النفط من قبل الرئيس الحالي دونالد ترامب عندما أعاد فرض العقوبات على إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، غير أن تحركات “برافو” الحالية تشير إلى تغير في السياسة الصينية، وما يؤكد على ذلك هو أن ناقلة النفط الصينية قد أبحرت في الخليج في اليوم نفسه الذي وصل فيه ظريف إلى بكين، والتقى بوزير الخارجية الصيني لمناقشة المشاركة الإيرانية في مبادرة الحزام والطريق (عبر الربط بين جابهار وجوادار).
من هنا جاء الجواب عن التساؤل الذي طرح نفسه عن سعي الولايات المتحدة وتحركها السريع لإقامة نوع من التحالف مع الهند بعدما أعلنت واشنطن عن استعدادها لبيع أسلحة عسكرية متطورة للهند، هذه الخطوات المتسارعة تكشف مدى حرص واشنطن على الإمساك بالهند كحليف جديد في منطقة تكنّ الكثير من العداء للولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة مع وجود علاقات مميزة تجمع بين إيران والهند، فمنذ التسعينيات والهند تسعى لإقامة علاقات قوية وطيبة مع إيران تدخل في إطارها الطاقة، وغيرها من أشكال التعاون التجاري، وتنمية البنية التحتية، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن مرتاحة لهذا التعاون، لذلك عملت على إشاعة التوتر بين الطرفين، واستغلت الملف النووي الإيراني لتحقيق غاياتها، وقامت بالضغط على الهند للتصويت ضد إيران داخل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد أن كانت كل المؤشرات تدل على أن الهند ستنضم للتيار الممتنع عن التصويت كونها تنتمي للتيار المعارض للولايات المتحدة.
هذا الموقف دفع الخبراء والمحللين إلى التساؤل حول الحكمة من ترويج الهند لفكرة التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت الذي كانت تدعو فيه إلى تحالف استراتيجي مع طهران، فالهند مثل غيرها من الدول تحاول أن تُبقي على علاقاتها الثنائية مع الآخرين تحت مسمى “استراتيجي” فقط، فقد أظهرت نيودلهي في النهاية قدرة كبيرة على تحقيق التوازن بين الحاجة إلى طهران، والحاجة إلى الاهتمام بتأمين علاقاتها مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة، فالهند، رغم تصويتها ضد إيران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تسعى بكافة الوسائل إلى ضمان أن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا لن تتطاول على المصالح الإيرانية، بمعنى أن الهند تحاول أن تقف عند حدود معينة تضمن الحفاظ على استمرار العلاقات بين نيودلهي وطهران، على الرغم من الضغوط الأمريكية التي تمارس عليها، وضمن هذا السياق تواصل إيران والهند التقدم في سبيل الانتهاء من بناء ممر بين الشمال والجنوب مع روسيا، وقد وقّعت روسيا والهند وإيران على هذا الاتفاق المعروف باسم (الاتفاق الحكومي الدولي لإنشاء ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب)، ويعد هذا الاتفاق جزءاً من مبادرة الهند وإيران لتسهيل حركة البضائع عبر آسيا الوسطى والهند وإيران، حيث من المفترض أن تعبر البضائع عبر ميناء جابهار، وقد تعبر البضائع عبر السكك الحديدية إلى إيران في بحر قزوين، وموانىء (بندرآنزالي)، و(بندر أمير آباد)، ليتم بعدها نقلها إلى موانىء روسية في بحر قزوين.
ثم إلى طريق في موسكو يمتد بمحاذاة نهر (الفولغا)، ومن ثم إلى شمال أوروبا، ويعطي المسؤولون في الهند أهمية كبيرة لهذا الاتفاق نظراً لأنه سيقلل من تكاليف السفر ونقل البضائع.
وكجزء من الاتفاق وافقت الهند على مساعدة إيران في توسيع ميناء جابهار، وبناء على ذلك فإنه من الواضح الآن أن هناك تحولاً مهماً ستشهده السياسة الخارجية في إيران، والدليل على ذلك تبنيها لاقتراح ربط الموانىء، لأن إيران وقياداتها أصبحت متيقنة من حقيقة أن علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية لن تأخذ أبداً أي منعطف إيجابي، لذلك كان لابد من تعديل ضروري في السياسة الخارجية، فكيف سيكون رد الفعل الأمريكي على هذا التحول الخطير؟! وهل ستفرض عقوباتها الأحادية على ميناء جابهار بعد أن كانت قد استثنته، أو أنها ستلجأ إلى تغيير موقفها بعد أن استشعرت خطورة الوضع؟!.