الأسطورة حكاية عائمة
سعة الخيال فضاء ذو آماد شاسعة يسرح فيه وهج الإبداع، وتقوى لسرديته حيثيات الابتكار، إذ حدودُهُ سرابٌ لا يعرف تخوماً، ومتسعُهُ لا يعرف حدوداً.
هذا الخيال شكّل التربة الخصيبة لبذار وعي فطري، جماله في صفاء البراءة الندية على محيّا التشوّف صوب عوالمَ ورؤى تعكس قلقاً بنيوياً في حنايا التأمل، وتساؤلاً يبتغي إجابات وجوابات أيضاً في خبايا الحيرة، وربما الاستشراف في بواكيره الأولى فتراءى في ذلك كلّه على أفواه حروف اللغات على غناها وتنوّعها ليغدو نمطاً سردياً تجسّده فكرة تطل بذاتها بحثاً عن بصيص في سراديب الدروب الضيقة سعياً وراء المجهول على أجنحة التفكير والتأمل والتساؤل.. هي فكرة في إرهاصاتها الأولى عبر سابقات الأزمان.. إنها الأسطورة حكاية عائمة. فالأسطورة في منظومة كلمات التعريف تظهر جملة مفردات على شريط من معنى أنها: حكاية متوارَثة تتناقلُها ألسنُ الناس بخصوصيات لغات، هي بيئات منتجة لها في خصوصية ذات المكان، وتشاركية وعي فطري في تناغم فكرة تعتمد السرد المطرد، والخيال الشائق، والحادثة الحاذقة النابهة ذات المغزى الإنساني، والأبعاد والمقاصد الفكرية في مرتسماتها الفلسفية الماورائية، وقصي مدلولاتها في مقاربة معطى الحياة والوجود والتفاعل الحضاري ضمن انسراب الحاضر في نسيج الماضي مع استنهاض قوى غيبية للخوارق، فيها متسعٌ بما يفوق واقع الإنسان فيكمن في ذلك التشوف اللافت في: ردم هوة أو فجوة وهن عبر هذا المتخيّل تعزيزاً وتجسيداً لعِبرة، أو شرحاً لبعض الظواهر الطبيعية، وقد سرت كلّها في مجرى عادات وتقاليدَ لشعوب حطت رحل تساؤلاتها حول قضايا المصير، ومسائل التفكير.
ومع تطور التجربة الإنسانية في استثمار الوعي عبر عراقته مذ كان فطري التساؤل إلى أن أضحى موضوعي التأمل والاستبصار وإعمال العقل حصافة وتفكيراً، وقد عاضد ذلك كله دفقٌ معرفي ومراكزُ بحوث، وبيئات علمية، وتكامل معارف، وغنى تقانات كل ذلك أسس لأن تصبح “الأسطورة حكاية عائمة” أدباً فنياً يتوسّله الكتاب في أقلامهم نقاط ارتكاز لفِكرهم، والشعراء روياً لدعائم قرائحهم ذات المضامين المستجدّة في وعي الحياة التي هي صدى لأفراح أو مواجع، وبذينك الأمرين أضحت “الأسطورة حكاية عائمة” إضافة إلى كونها فناً، صارت مكتسباً لما يضمنونه من مقاصد فكرية واجتماعية وأيديولوجية، بل في صُعد الحياة كلها أيضاً، فالأسطورة بسطوة حضورها، إنما هي خطاب موجَّه إلى الخيال الشعبي المتعطش إلى الخرافة في تجاوزها فِكرةً لمعطى ثنائية الزمان والمكان في منطقية حقائق سردية العلم، ولا سيما التطبيقي منه.
وثمة عودة إلى زمن الإغريق والرومان تطالعنا قصةٌ تتسع لها الأسطورة حكاية هي قصة “بيرسفون” ابنة إله القمح “ديمتر” التي نُقلت إلى العالم السفلي من قِبل “داديس” الذي سمح لها بالعودة إلى زيارة أمها في النصف الأول من كل سنة “ليكون المغزى من هذه الأسطورة الحكاية العائمة” استنباط فكرة: تعاقب الفصول.
ولأن التجربة الإنسانية هي كون جمعي في ماهية الفطرة الإنسانية وتجلّياتها فقد انصهرت مثاقفة هذا الوعي في غنى تفاعلي سمّاه الوعي الأدبي “الأدب المقارن: وفق أسيقة الواقع المشترك بين شعوب البسيطة.
وقد تلقّف أدباؤنا العرب هذا البوح الفطري الغائر في مهاد الزمن العتيق ليجعلوا منه حقلاً تُنتش بذوره في بعث الأمجاد عبر سقاية الإبداع بخبرات سابقة وبعث مشاعر الإحياء الحضاري، وتأكيد اليقظة على قيم العصر هذه القيم الضاربة الجذور في أعماق الساميات من الوعي الراقي والسلوك الأنبل حيث الصوغ الأدبي الإبداعي المحكم النسيج، القويُّ الأسر في استخدام فني جميل لدلالة “الأسطورة حكاية عائمة” ولعلنا في بواكير شعرنا الجاهلي نقرأ عن “تأبط شراً” الذي قتل الغول، إذ، كما قال “رولان بارت” كل شيء يمكن أن يكون أسطورة فشخصية “شهرزاد” الفتاة الحذرة الذكية التي تشكل الأنموذج في الحكايات الشرقية تجسيد لمعنى القول ضمن “ألف ليلة وليلة” إذ، إنها عبرت العصور واللغات عبر مبدعين، وأثرت على المتخيّل الغربي أيضاً، مثلما تمّ تحقيق التناغم بين “الفينيق المبشّر بعودة تموز عند الشاعر “أدونيس” أو واقع التجانس المكثّف في معطى الأسطورة عند السياب، مثلما نجد في “أنشودة المطر” حيث الرمز الأسطوري وبراعة الشاعر في خلق علاقات كثيفة معقّدة تمثّل عاملاً موحداً للنص من حيث غرضه ومعانيه، فالوصف الساكن يمتزج بالحركة فحوّل العينين “غابتا نخيل” تتحرّك العناصر الطبيعية المختلفة لتخلق إطاراً من الحركة حول الوصف الساكن وضمن مدارات الرمز والتمازج الأسطوري مثلما يتحوّل المطر داخل العلاقات الفعلية في النص إلى فاعلية رؤى في دلالة الفِكرة بقوة المضمون الممتزج بالرمز الأسطوري الطبيعي حيث فساحة “الأسطورة حكاية عائمة” على صفيح ذاكرة مبدعة وابتكار مستأنف في توظيف تقانةٍ لها دورُها غنى وفائدة.
نزار بدُور