بلا وسادة, ولا زند!؟
د. نهلة عيسى
منذ أسبوع, وعلى خلفية السجال الذي دار بيني وبين إدارة تحرير جريدة البعث حول مقالي الذي كان يجب أن ينشر الأربعاء الماضي, لم يتوقف الحوار بيني وبين د. عبد اللطيف عمران حول المهنة وسقوفها وخطوطها الحمراء, والدور المجتمعي المنوط بالصحافة الحزبية, وقد أخبرته وأعيد هنا: أنني فيما أكتب لست رهينة مزاجي كما قد يخيّل للبعض, بل أنا رهينة الحقيقة, حقيقتي, وحقيقة كيف أرى الأشياء من حولي, وهي رؤية ليست عبثية, بل مضبوطة بصرامة بمواقفي المعلنة والخفية, التي لم تساوم يوماً على الوطن, ولم تضع في ميزان البيع ما أؤمن أنه الفعل الأسمى لمهنة الكتابة في الصحافة, خاصة الحزبية منها, التي هي بطبيعتها صحافة نقدية, سواء كان الحزب الذي تمثله حاكماً أم معارضاً, وهو أمر مارسته في الجريدة على مدار سبع سنوات, لم أوقع ولم يطلب مني أن أوقع تعهد إقامة في مرفأ بعينه, ولا بطاقة طيران في سماوات محددة, بل تُركت للتجوال في كل الجروح على هواي, ولطالما قادني تجوالي في الوجع إلى سابع سما على صفحات هذه الجريدة, ولم أوقف, ولم يطلب مني التروي, ولا النوم على وسادة “السياسة التحريرية”, لأن من دعاني للكتابة يوماً في الجريدة كان يعرف أنني ممن يفتشون عن اليقين في الزمن الكافر!؟
ولذلك كان غريباً علي ما حدث الأسبوع الماضي, وإن كان بالنسبة لي مفهوماً, لأن مجتمعنا ما زال في حالة قلقلة انتقال دستوري ومعاشي, وضبابية رؤية وربما ممارسة, ما بين مفهوم ودور الحزب القائد للدولة والمجتمع, ومفهوم ودور الحزب الحاكم, وهي قلقلة تقود أحياناً إلى محاولة مطالبة من هم مثلي برمي مرساتهم في المرافئ المحكومة بقوانين ماض لم أكن لأرسو في ظلها, وهو يمزق إمكانية أن أرسو إليها في الحاضر, لأنه لا يعرف كيف يعيش الحاضر!؟
يا أصدقائي: أنا مشردة على كل الجبهات في وطننا مكسور النوافذ, ولذلك أنام كالموتى بلا وسادة, ولا أغفو على زند أحد, وتشردي وسادتي, ليس حالة فردية, بل هو انعكاس لتأثيرات المرحلة على ذاتي, والتي أجبرتني على معرفة أنه لكي أكتب, ليس فقط يجب أن أقرأ, وأن أعي موقعي كمواطنة سورية في عالم يتآمر ضد وجودي, ويلعب دور البطولة في المؤامرة بعض أبناء جلدتي, بل أن أعايش الناس البسطاء والفقراء البعيدين عن الأضواء, وأن أتقاسم معهم الجروح والطعنات والخيبات, وأن أتحسس همومهم بتواضع العشب وملايين الأزهار الصغيرة التي لا اسم لها, سوى أنها جميلة, وأنها رغم أنف الصخر, تغطي الصخر!
أنا مشردة, ولكني لست رهينة مزاج, لسبب بسيط: لسنا في زمن المزاج, فالحقيقة أكبر من اللغة, والحقيقة تقول: نحن في زمن الموت, وأنا أرفض بركة هذا الزمن, ولهذا أتعذب بكتابة ما لا يكتب, وأرفض مقايضة روحي مقابل الصمت, لست “فاوست” ولن أدفع روحي ثمناً لشيء مهما أحببته, ولن أوقع (مثل معظمنا) بدمي صكاً سوى للوطن, ولا أريد أن يمنحني أحد شيئاً مقابل كذبة أننا بخير!! ولذلك كتبت يوماً على صفحات هذه الجريدة أننا لسنا بخير, ولم يعترض أحد, ولذلك بقيت.
يا أصدقائي: نحن في زمن نعيش ونحب ونشتاق ونتمنى ونريد مع وقف التنفيذ, ونشطر كل ثانية بالسكين إلى شطرين, رغم أن العمر واحد, والبؤس واحد, إلا أن الأعداء أربع وأربعون, ولهذا تدهشني قدرة البعض ادعاء الحياد والموضوعية, لأن هذا بالنسبة لي أمر مزيف كسائر النظريات التوفيقية التي يخسر فيها المرء ذاته ويكسب فقط أنه قد نشر! ولم يكن همي يوماً النشر, أنا وبصدق شديد كرائحة أي نبتة في حقل, لا أريد أن أخدع أحداً, اقبلوني أو ارفضوني, ولكني سأبقى لا أقول إلا ما أظنه الصدق, والصدق أن هذه الجريدة لطالما احتضنت وقوفي العاري على قمم الجروح, ثم في لحظة رأت أن العري ربما يؤذي بعض العيون, فقررت إلباس كلماتي الثياب, ورددت: هذا كفن, ورد د. عبد اللطيف عمران: إلا الكفن, فعدت, وها أنا.