الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

الفنان التشكيلي..!

حسن حميد

أكاد لا أصدق أن حال الأنشطة الثقافية، وعلى مختلف مستوياتها، وصلت إلى هذه الصورة الهزيلة التي لا ترضي أحداً من محبي الثقافة بمعناها الواسع. فنان تشكيلي له تجربة ثلاثة عقود أو أربعة مع الألوان، والتشكيل والمدارس الفنية، والرحلات مع معارضه في بلده، والبلاد الأخرى.. يقيم معرضاً للوحاته الجديدة، أو مختارات لأهم لوحاته، فلا يحضر افتتاح معرضه، ولا يمر به طوال أيام أسبوع المعرض سوى نفر قليل من معارفه، ولا يُكتب عنه سوى خبر هنا أو هناك رفعاً للعتب، وهذا أمر مؤلم وموجع، لكن الأكثر إيلاماً وتوجيعاً للنفس تلك المرارة التي يتجرعها الفنان في خلوته مع لوحاته مستذكراً وإياها تعبه الجميل وصبره الطويل وهي في رحلة التكامل لتكون بهجة أو سحراً حلالاً، يستذكر وإياها كم بدّل وكم غيّر الألوان، وكم تقدم من اللوحة ليزيدها بهاء، وكم تأخر عنها ليرى زينتها، ومضايفات روحه إليها، ويستذكر أيضاً كم واقفها في النهار، وكم ساهرها في الليل، وكم حلم بها في ساعات هجعته، بل كم قرأ لها، وتقصّى ما يشبهها من لوحات سابقة عليها، وكم تأمّل أن يرى الناس، وهم يواقفونها، مذهولين بها، وكم شال به التطريب الفني، والنشوة الإبداعية وهو يرمي توقيعه في زاويتها القصية تماماً مثلما ترمي عاشقة منديلها الحريري من شرفة غرفتها إلى عاشقها وقد خدّرته وقفته الطويلة طيّ ليل حالك ليؤنس روحه بأنه رآها، وأنها أحسّت به ورأته، والكارثي هو أن لا يأتي ناقد فني خلال أيام معرضه ليرى لوحاته، وأن لا تأتي جهة ثقافية مسؤولة عن رعاية الفنون لتهديه حزمة ورد، أو تقول له: شكراً وجيزة، وأن لا يمر به صاحب مال ليسأل، ولو من باب الإيهام، عن أسعار لوحاته، عندئذ، أي حال هي حاله، وأي قميص من الحزن سيرتدي! وأي مشاعر ستلفه، وأي ذكريات ستأخذه إلى عوالم الفنانين الذين عانوا من شظف الحياة ومتطلباته، هؤلاء الذين ما كان بحوزتهم ثمن قميص أو وجبة عشاء، فماتوا وهم يهجسون بالثياب والأطعمة، وقد بيعت لوحاتهم بعد رحيلهم بالمبالغ المالية الراعبة، أو أولئك أهل المواهب النادرة الذين باعوا أرواحهم الفنية لأصحاب القصور والجاه كي يزينوا الجدران والسقوف باللقمة والثوب!أما الأكثر كارثية فهي تلك الدموع التي ستتساقط بكرم وحياء مثل تساقط ندف الثلج فوق لوحاته وهو يجمعها، وقد انتهى العرض، وانطوت أيام أسبوعه الفني، وبأي خيبة سيعود بها إلى أهله، والى مرسمه، والى روحه، وساعتئذ..هل ستظل لأصابعه حساسيتها، وهل ستظل لروحه رعشها الجذل، وهل سيظل لخياله المقدرة على الاشتقاق وصوغ ما يجلب الخلب والمتعة والإتيان بالمعاني البعيدة، وكيف سيمحو هواجسه تجاه ما حدث له، ومن أين له الحليف الذي يسنده كي يرتب أحلامه من جديد، ومن سيؤيده، والحال على هذا النحو، أنه اختار الفن كخيار علوق بالعقل والقلب، وهل سيظل لضوء الصباح الآتي من النافذة العالية بهاؤه، وهل سيظل للقهوة طعومها الآسرة، وهل سيظلّ للروح جلدها وهي تعاني ما تعانيه كي تبقى اللوحة كتاباً يحكي حكايتها وهي تتفرد بخاصيتها! بلى، هذا وجه من وجوه الثقافة الذي ما تمنّى مبدع شغوف بالإبداع أن يراه أو يواجهه أو يعرفه حتى لو كان على شكل قناع مؤقت تخرج به الأيام وتتزيا به لفترة محدودة من الزمن! والسؤال الرّاج للذات هنا: كيف نقاسم الفنان، أو نشاركه، حلمه من جهة، وحزنه من جهة أخرى؟!
Hasanhamid55@yahoo.com