ثقافةصحيفة البعث

“أشباح بروكسل” والعلاقة المستجدة مع الآخر

 

خاض العديد من الروائيين العرب في موضوع العلاقة مع الاخر، أو ما اصطلح على تسميته مؤخرا بصراع الحضارات، وقد برز في هذا الاتجاه الأديب المصري الراحل توفيق الحكيم في روايته “عصفور من الشرق” التي سعى من خلالها لإقامة حوارية بين الحضارتين الغربية والشرقية العربية. كما خاض الأديب اللبناني سهيل ادريس تجربة مماثلة الى حد ما في روايته “الحي اللاتيني”، وكذلك فعل حنا مينه في “الخريف والربيع”، وعبد الرحمن منيف في “قصة حب مجوسية”، وهدى الزين في “غابة من الأشواك” وغيرهم الكثير.
ومع تطور الأحداث في بدايات القرن الحالي وظهور مصطلح “الحرب على الارهاب” وما تلا ذلك من أحداث عصفت بالبلاد العربية وأدت الى نزوح أعداد كبيرة من المهاجرين باتجاه اوروبا، اخذت النصوص الروائية العربية تجاري المستجدات والمتغيرات في العلاقة مع الآخر، ومن هذه النصوص نقرأ نص الكاتب المصري محمد بركة “أشباح بروكسل” الصادر حديثا عن الهيئة المصرية للكتاب.
في هذه الرواية يأخذنا بركة الى وقائع جديدة يبرز فيها ملامح وصور التأثير العربي في المجتمع الغربي من خلال الوافدين الجدد الذين فرضوا أنفسهم على المجتمع الغربي بأفكارهم ومعتقداتهم وأسلوب حياتهم، هذا المجتمع الذي وضعت النظم والقوانين لتناسب التطور الفكري والحياتي الذي وصل إليه، لكنها لاتصلح لتنظيم حياة الوافدين الجدد، الفوارق تلك أوقعت الإدارات الاجتماعية والسياسية الغربية في تناقض وإرباك تجلى في التعامل مع الأحداث الدموية التي شهدتها بعض البلدان الأوربية وكان وراءها جماعات راديكالية عاشت وترعرعت في ظل القوانين الغربية.
تروي الرواية بضمير المتكلم حكاية صحفي مصري أرسلته مؤسسته الإعلامية لإدارة مكتبها في مدينة بروكسل البلجيكية، وهناك بدأ يتعرف طبيعة الحياة البلجيكية من خلال الكثير من الشخصيات التي التقاها وتنتمي الى جنسيات مختلفة تشكل المجتمع البلجيكي المتعدد الأعراق واللغات من الفرنسيين الى الألمان والهولنديين والمغاربة العرب وغيرهم، يضاف إليهم الوافدين الجدد من بلاد الشرق العربي المأزوم الذين جاؤوا يحملون أفكارهم وطموحاتهم وأطماعهم وعشوائيتهم، وما أحدثته تلك الأفكار والأطماع والعشوائية من تأثير في مجتمع مثالي في طبيعة حياته.
لا يخفي بركة في هذا السرد موقفه من بعض الوافدين الذين يصفهم بآكلي الاكباد وقاطعي الرؤوس في إشارة الى الارهابين الدواعش القادمين من سورية والعراق الذين نشروا الخراب والدمار في هذين البلدين وجاؤوا الى بلجيكا حاملين ذات النزعة التدميرية. يقول “بالفعل تم تأسيس تنظيم” القرآن من أجل بلجيكا “على يد عنصر آخر هو فضل عدنان الذي لاحقته السلطات ففر هاربا بصحبة زوجته هند الى سورية ليلقى مصرعه وهو يقاتل ضمن قوات قاطعي الرؤوس تاركا التنظيم الوليد أمانة في يد رشيد..”.
ويقول في موضع آخر “رغم أنهم تركوا البلاد قبل سنوات وسافروا الى الشرق ليمارسوا مهامهم المقدسة في مضغ أكباد الأعداء في بث مباشر يتابعه العالم بكل اللغات..”.
ومن جانب آخر يغمز بركة في روايته من طرف السلطات الغربية التي تغض الطرف عن رعاية وتأسيس الحركات الإرهابية، ويحمل تسامح قوانينها معهم مسؤولية ماحدث من تفجيرات في بلجيكا.” رغم إدراك السلطات المختصة بأن عددا ليس بالقليل من المساجد تحول الى ورشة عمل لتجهيز القتلة الجدد، فإنها تحاكم بعض الأئمة المتورطين، وبعد انتهاء جلسة المحكمة يعود الإمام حرا طليقا إلى مسجده ليلقي درسه الأسبوعي وسط أنصاره المتعطشين لسفك المزيد من الدماء..”.
لايغفل بركة الاشارة الى النظرة الدونية التي ينظر من خلالها الغربي الى العربي، وهي نظرة تطرقت اليها الرواية العربية مرارا وتكرارا عبر الكثير من النصوص من خلال حوار بطل الرواية مع شخصيات تنتمي للآخر الفوقي “.. هل حقا لديكم في مصر سيارات؟ وهل الرجل عندكم يعيش مع أربع زوجات في خيمة واحدة وسط الصحراء؟، أين كنت يوم 11 سبتمبر، وهل خرجت ترقص ابتهاجا بسقوط البرجين وموت آلاف الأبرياء..” هذا نموذج لحوار الصحفي مع امريكية التقاها في أحد المؤتمرات التي حضرها، دون أن يمنح بركة لبطله فرصة الدفاع عن مجتمعه، وكأنه يتواطأ ضمنيا معها في ادانة الواقع الاجتماعي العربي، هذا الواقع الذكوري الذي يحمله، خفية، حتى المثقف العربي في جلبابه أينما حل خاصة معه الى أوروبا المتحررة من القيود الاجتماعية، ولذلك نجد الحالة الايروتيكية تبرز في جل الروايات العربية التي تناقش وجود الرجل العربي في الغرب، من خلال بحثه عن العلاقات الحميمية الحرة المرفوضة اجتماعيا وقانونيا في المشرق العربي، مع هذا يتقبلها بشغف في الغرب..
يبرز الأسلوب السينمائي في الرواية من خلال اللغة الوصفية التي تلتقط الكثير من التفاصيل التي ترسم صورة واضحة أمام القارىء، فالكاتب لا يخفي تأثره بالسينما المصرية وما تقدمه، خاصة تلك الأفلام المأخوذة عن نصوص روائية كبيرة لذلك نجده يستحضرها في الكثير من الاستشهادات والتشابيه كفيلم “الأرض، والمهاجر” ليوسف شاهين، فيلم “الراقصة والطبال” احمد زكي ونبيلة عبيد، وعمارة يعقوبيان عادل إمام ونور الشريف.. وغيرها
“أشباح بروكسل” نص روائي ناضج يحمل الكثير من الرسائل والأفكار الهامة التي تستحق التوقف عندها.
آصف إبراهيم