جثوات.. في حضرتهم!
حسن حميد
الآن، وبعد أن كرت سنوات المحنة نفاداً، وهي سنوات صعبة، وموجعة، وذات دلالات جديرة بالدرس والتمعن والمراجعة، وبمناسبة عيد الجيش، عيد الأبناء الأباة، أهل الثبات، والاقتحام، والجسارة، أهل الانتصار الشارق وفاءً للأجداد، والآباء، والتراب، والكتب الباهرات، أو مواقفة الشهداء.
لقد راجعنا خلال وقت الحرب قصص الحروب القديمة، وواقفنا أفكارها ومعانيها وعلاماتها الراشدة للعزة والكبرياء، وعشنا أحوال الحرب التي فرضت علينا بعد أن امتدت بحرائقها، وأذياتها، وأسئلتها طوال السنوات الثماني إلى لبابات أرواحنا، فأيقنا جميعاً أن الحرب ذات مضايفة غير عادية، فالنبل، والبطولة، والخوارق، والجسارة، وعشق التراب والسيادة.. هي أرواح متجددة ولود، تعيش بها وتمشي أرواح جديدة أيضاً، وأن تبدّلات ومغايرات كثيرة طالعتنا بها قصص الحرب وأخبارها.
قديماً حاولت /أم أخيل/ الإغريقية أن تبعد ابنها /أخيل/ عن حرب طروادة، مع أنها حصنته ضد الموت حين دلّت جسده في نهر الخلود، ولم تتبقَ من نقطة ضعف فيه سوى كعب قدمه لأنها كانت تمسك به، حين نادته الحرب وارته في أحد القصور، وألبسته ثياب النساء لأن العرافة قالت لها: أمامك أمران، وأنت متعلقة بابنك أخيل، إما أن يصير من أهل المجد إذا شارك في الحرب، وإما أن يصير من أهل الحياة إن أبعدته عنها. وقد فضلت الأم، بسبب عاطفتها، أن يكون ابنها من أهل الحياة لا من أهل المجد، لكن /أوليس/ صديقه عرف المكان الذي يتوارى فيه، فذهب إليه وأخذه معه إلى الحرب.
في سورية، وخلال السنوات الثماني الماضيات، لم تبعد الأم السورية، وهي صاحبة الانتصار، وصاحبة الأفعال التي ستدون في مدونات التاريخ، عن الحرب لأنها فضلت المجد على الحياة الذليلة، وهذا أمر ليس بالهين حين نعي عاطفة الأم، وحين نستعيد مشهدية دموعها السابلات الغاسلات لوجهها، وشهقاتها كلما مرّ طيف ابنها الشهيد أمام ناظريها وفي خاطرها..
في الحروب السابقة كان الناس هم الذين يمشون في جنازات الشهداء، أما في سنوات الحرب المفروضة على سورية، فكانت القرى تتنادى لكي تمشي في جنازات الشهداء، وقديماً كان درب وحيد هو الموصل إلى مقبرة الشهداء، والآن صارت لمقبرة الشهداء السورية الدروب التي يظللها الماشون، والجالسون، والمنتظرون، والسائلون. وفي الحروب السابقة كان الوجيه، ورجل الدين، والقائد العسكري، والمختار، وأساتذة المدارس هم من يسألون عن خواطر أهل الشهداء، وعجائز القرية، ذكوراً وإناثاً، هم الذين يندبون الرحيل، ويعددون مآثر الشهداء.. في هذه الحرب تنادت الأجيال، والقرى، والنهارات، والليالي، والكرامات لكي تصير معاني الشهادة هي الكتاب الذي يقرؤون فيه تاريخ الأبناء الشهداء الذين حرسوا الأرض والعرض والحضارة والعمران، والمستقبل.
في هذه الحرب، باع الكثيرون سياراتهم وأرزاقهم، ومواسم زيتونهم، ومحاصيل بيوتهم البلاستيكية، وحواكيرهم من أجل أن يمشوا في الدروب الندية الموصلة إلى بيوت الشهداء، كي يظل خاطر أهل الشهيد مجبوراً، وكي تظل بيوتهم دارات للمؤانسة وتوليد المعاني الخالدات.
بلى، أعرف الكثيرين من أصحاب الأيدي الندية، هؤلاء الذين صاروا مشائين، يتقفون دروب الشهداء وبيوتهم مرةً، ومقابرهم مرةً أخرى، ورواةَ أخبارهم وكيف استشهدوا مرة ثالثة.. هؤلاء الذين سميناهم أهل الجثوة الطويلة في حضرة أهل الشهداء، وفي حضرة قبورهم، التي لولا الحياء، وحقانيةُ الشهادة، حين تدحم الملماتُ الأوطانَ، لتشققت عنهم مثلما تتشقق الغصون عن أورادها.
بلى، هم كثرة الذين جعلوا من الشهداء مرآةً للوطن، وكثرة هم الذين رووا سيرهم حتى صارت تاريخاً للمباهاة، وكثرة هم الذين وددت أن أذكرهم بالاسم لأنهم عاشوا مع الشهداء وذويهم أكثر مما عاشوا مع أولادهم، غير أن نبلهم يحول بيني وبين تسميتهم لأن حلمهم كان حلم معن، وفروسيتهم كانت فروسية صلاح الدين، وسموهم كان سمو العلى وما فيها من نجوم زاهرات.
Hasanhamid55@yahoo.com