بديع حقي كاتب الموقف والكلمة الشعرية
بدأ حياته شاعراً متأثراً بدمشق وجمالها وأجوائها الساحرة، ومن يقرأ أدبه يجد إضافة للأدب واللغة والمتعة ميزة أخرى قد لا تتوفر لدى سواه من الأدباء والمبدعين، فقد كتب الرواية والقصة القصيرة وكان قامة ندوة “قامات في الفكر والإبداع والأدب والحياة” في مكتبة الأسد الوطنية والتي حملت عنوان “بديع حقي كاتب الموقف والكلمة الشعرية”.
حياة بديع حقي
في سيرة بديع حقي الذاتية التي أسماها “الشجرة التي غرستها أمي” قال الأديب غسان كلاس: هذا الكتاب -وكما يقول بديع- هو أحب مؤلفاتي إلى نفسي وأقربها إلى حنايا قلبي ومنازعه، لأنه منوط بذكرى أمي مستجلياً ملامحها، مصوراً طبعها، المواكبة لمنبلج طفولتي وعفرة صباي من دون أي تزويق أو زيادة في الوصف والتحليل. يسرد أديبنا الراحل مذكراته التي تلقي أضواءً على نصف قرن من تاريخ دمشق وتبدو فيها ببيوتها العريقة وغوطتها الغناء وبرداها الخالد وعلاقات أهلها وناسها وسكانها.
وأضاف كلاس: يسحرك بديع حقي بأسلوبه الماتع وكلماته المنتقاة وجمله التي تحاكي الشعر عذوبة وأناقة يصف ببراعة مشهودة حارات دمشق وأزقتها ودورها ودهاليزها، ويروي مااختزنته ذاكرته من قصص وحكايات عن هذه المعالم وشموخها وعنفوانها من خلال دخوله الكتّاب واحتفال ختم القرآن وحلقات المولوية وأغنيات سيد درويش.
يصل عبر سيرته الماضي بالحاضر والجهود المبذولة للحفاظ على (سوق ساروجة) الحي الدمشقي العريق، استانبول الصغيرة، الذي زاره بعد أن اضطر لبيع بيت العائلة الكائن فيه غير مرة يعتصر فؤاده الأسى مشفقاً ومتسائلاً: ماذا أبقى الشارع الجديد من معالم الدار القديمة.
قراءة
وفي قراءتها لقصص بديع حقي ومضمونها قالت د.أماني محمد ناصر: اعتمد بديع حقي الدقة في اختيار مفرداته المتناغمة وما أراد من عباراته، فأبدع في الوصف والتصوير بتناغم موسيقي يفيض عذوبة تأسر الإحساس، وتتسامى شاعرية في فضاء الخيال بموسيقى عذبة وشعور فيه الكثير من الأحاسيس. إنه من ذلك الجيل الذي اكتنز الأدب والصورة المنقوشة في الذاكرة، ومن ثم ساح في دروب الحياة والاختصاص والعمل، وكان مخلصاً لكل حياته، وقد اعتمد على الحوار بين شخوص قصصه لإيصال فكرة معينة للقارئ، وتنوعت حواراته بين السخرية والكوميديا والألم الذي تجلى في قصته “التراب الحزين”، ونلاحظ أيضاً أن الأمكنة في قصص بديع حقي تنوعت جداً فهو يجول بنا في دمشق من خلال قصة اللص والعكازة، أما اللغة فهي من أهم ميادين الإبداع القصصي وأصعبها، ومما يضعف القصة طغيان لغة كاتبها على لغة شخصياتها، فحين تتكرر عبارات معينة ومفردات محددة في أكثر من قصة للقاص نفسه فإنه سيكون حاضراً في ذهن القارئ كأنه يفرض عليه وعلى شخصيات القصة سلطته وتأويلاته.
فلسطينيات
وبدءاً من العنوان المعبّر “التراب الحزين”، وتحت عنوان “فلسطينيات بديع حقي” قال الأديب أيمن الحسن: “الحزين” هنا ليست مبالغة اسم فاعل على وزن فعيل، بل هي صفة مشبهة تعني استمرار الحالة مثلما نقول عن شخص إنه كريم، فهذه صفة ملاصقة له.
يورد د.بديع حقي قصيدة مقدمة لقضية يوميات خيمة التي يبدأ تاريخها 16\5\1948 أي اليوم التالي لإعلان دولة الاغتصاب الصهيوني في فلسطين، أوضح الصور تلك التي تراها عن بعد، أو بالأحرى بعد أن نبتعد عنها مسافة مناسبة والمسافة قد تكون زمنية، زمناً انقضى فتصبح الصورة أكثر عمقاً ودلالة ولاسيما إذا ترافقت مع مشاهد مشابهة على الرغم من اختلاف التوقيت ما بين سنة 1948 وسنة 2019، فالاحتلال هو الاحتلال: من شرّد أهل فلسطين وأجبرهم على ترك مدنهم وقراهم، صحيح أن التاريخ لا يتكرر حرفياً إلا أننا مع د.حقي ننظر في المشهد الكارثي للنكبة وغيرها من الوقائع عن بعد لا من داخل المشهد والحدث.
“همسات العكازة المسكينة”
ويرى مدير الندوة د.إسماعيل مروة أن الأديب يبتدئ روايته بتمهيد بسيط يخبر فيه القارئ أن روايته تعتمد على أحداث واقعية عايشها بنفسه، وعن موسيقية الكلمة في روايات بديع حقي قال مروة: لم يضف إلا ما تقتضي أمور الرواية من تنميق وتزويق، وهو بهذه الطريقة أضفى مزيجاً من التشويق، والترقب لقراءة الرواية بكثير من الفضول، ويبدو الأديب في روايته منغمساً بآلام الطبقة المسحوقة ومعاناتها، وشقائها وأحزانها من عمال وفلاحين وعميان وعاهرات. تعاطف معهم ولم يحكم عليهم، اعتبر أن الظالم في روايته هو نتاج المجتمع، فالتمس العذر له، وهو إذ يجعل العكازة بطلاً رئيسياً عاصرت “حمود”، وكبرت معه، وعايشت جميع تفاصيل حياته التعيسة، بدءاً من اللحظة التي فقد فيها نور عينيه نتيجة خطأ طبي ارتكبه حلاق الحي أبو صطيف، وحتى اللحظة التي ارتكبت فيها جريمة الشرف بحق أخته. الرسالة هي عدم اللجوء إلى عديمي الاختصاص، وضرورة تعليم الفتاة، وعدم إرسال الفتيات للخدمة في بيوت الآخرين خوفاً من وقوعهن تحت رحمتهم، دفاع الفتاة عن نفسها في حال تعرضها لمحاولة الاغتصاب، وعدم الحكم على الآخرين من واقعهم ومحاولة إيجاد المسوغات المنطقية لأفعالهم، والابتعاد عن المجتمع الفاسد ورفاق السوء، وجريمة الشرف لا تمحو العار، ومن الأفضل إيجاد وسائل غير القتل للدفاع عن الشرف.
جمان بركات