“أرض الجهاد” في ميزان النقد
يضفي الكاتب من روحه ونفسه على روايته فيظهر شغفه في التفاصيل وتبدو حرفيته العالية بين صفحاتها ومؤخراً أستضاف فرع دمشق لإتحاد الكتاب العرب ندوة نقدية بعنوان “محنة الرقة في رواية أرض الجهاد” للروائي أحمد محمد الطاهر وقد بدأها الشاعر أمير سماوي الذي أوضح أن أكبر مشكلة تعاني منها الرواية العربية هي في موضوعها والتشعب المقصود والتجريبي، والذي يبدأ بتدخل الكاتب ودخوله الشخصي إلى سياق حكائي فيها والذي هو في حقيقته استعراض لميزات براعة الكاتب كمدعي حكمة اجتماعية سياسية.
رواية تعددية
ويرى سماوي بأنه قد يكون الروائي بإقحامه الشخصي لحالاته العاطفية أو الفكرية قد انتهك الموضوع من منطقه الطبيعي، وإن هذه الممارسة الصورية عامة عربياً وهي مقتل مؤكد لسلامة الرواية فنياً، فهذا الخلل شاعري أولاً وإصلاحي تربوي ثانياً ووعظي مخادع وساخر واعتراضي أخيراً، حيث يؤخذ النص ويحمل مؤقتاً ليقول أموراً أو أشياء أو مشاهد خارج سياقها، وهنا تحدث صيرورة مختلفة هي تشويه متعمد لا خلاص للرواية العربية منها، وهذا التدخل ناتج عن فهم الروائي العربي فنياً لما يكتب بأنه يجب أن يستوعب كثافة تخيلية حشوية أو تعددات دلالية لغزية، مبيناً ونحن اليوم أمام رواية أرض الجهاد لمحمد الطاهر التي يتفوق كاتبها في مجال وحدة عضوية حكائية، وصحيح أنها رواية ضيقة ومستعجلة في سردها الحواري وتحتاج لمنطقية كاتبها الذي كان عليه أن يتفكر ملياً بمشهديتها الجمالية، فهي رواية تعددية من نواحي الأمكنة والشخصيات والمتغيرات ذات البعد التحولي والحالات والمواقف، وقد قسمت إلى عشرين عنواناً فرعياً مما أوهمني لتخيلها قصصاً قصيرة، ولكنها تأسست لتطرح خطاب بؤرياً له نبرته السياسية والاجتماعية، وكان على محمد أن يتجنب مطبات موضوعية وشكلية فالرواية اجتاحت خمسين عاماً واخترقت عدة أمكنة وهنا ثمة أسئلة عن الرغبة الجامحة لدى محمد الطاهر في سرد حكاية وخطاب قولي وقصدي على حساب متطلبات فنية، ولذلك كانت الرواية بأمس الحاجة لإخضاعها للحوامل الفنية، ويمكن القول أن الرواية استعراض لعوالم نفسية متناقضة وروحية وفكرية وعاطفية وهي من ناحية المبنى تحليق بلاغي في إطار خطة كاتب متمكن من سيطرته على نفسه التواقة.
خيال وتفاصيل
من جانبه بيّن سهيل الذيب أن أرض الجهاد وأرض الرباط هي بالأساس القدس، لكن الروائي يقدمها في هذه الرواية الرقة مدينته وأي أرض عربية وذلك لما حل بها من خراب وقتل وتدمير، ويهدي روايته إلى الأرض التي ارتوت من دماء الفقراء ولم يقل من دماء الناس جمعياً، وكأنه مؤمن أن الذين صمدوا ودافعوا عن مدينته وبقية الأرض السورية هم من الفقراء، فأكثر الأغنياء لديهم تذاكر سفر إلى خارج الوطن حين الملمات، مشيراً إلى أن الكاتب يقسم روايته إلى مجموعة من العناوين ليسهل على القارئ متابعة الرواية، ويبدؤها بفصل الارتحال وفي الحقيقة كل فصل فيها يحوي فكرة الرحيل وكأني به يقول لا مكان للاستقرار في هذه الحياة، ويستعرض الذيب تفاصيل الرواية منذ اللحظة التي يفر فيها جلال “بطل الرواية” من مدينته يافعاً لا يملك شيئاً ثم يستعرض تفاصيل رحلته مروراً بعدة أحداث، هذه الرواية تتحمل الكثير فهي واسعة جداً بأحداثها ومعلوماتها ودمجها بين الواقع والخيال ولكن التفاصيل الكثيرة أوهنت العمل بعض الشيء فبدا في بعض صفحاته يبعث على السأم والرتابة ضمن فكرة فلسفية، وباختصار هي رواية طويلة يمكن إدراجها تحت أسماء جاسوسية بوليسية وطنية وتوثيقية لأنها احتوت كل ذلك بتمكن واقتدار.
سرد رشيق
كما استهل الروائي والناقد محمد الحفري حديثه بالقول: يحدث أحياناً أن تستفزك رواية ما وتدهشك، ويحدث أن تثير في نفسك القلق وربما الخوف والتوجس من ذلك الكامن المنتظر والمتربص، ويحدث أن تشعر أنك تعرف شخصيات عمل ما ترافقها وتتجول بروحك معها، وهذا ما حدث معي بالضبط وأنا أقرأ رواية “أرض الجهاد” لمؤلفها المحامي والروائي والقاص محمد أحمد الطاهر والتي تعتمد على تقنية سينمائية قل نظيرها، إذ تعنى برصد حالات بطلها الخارجية والداخلية أي النفسية التي تظهر عن طريق سردها الرشيق معبرة بذلك عن فنية رائقة، حيث يتم تتبع سيرته منذ نشأته الأولى وحتى النهاية ولا تغفل عين عدسته الثاقبة عن الأماكن التي تجول فيها بحرفية جمالية تغوينا كي لا نضيّع على أنفسنا كل ما خطته يد الروائي، لافتاً إلى أن الرواية مازجت في العديد من مقاطعها بين التقليد والحداثة مركزة على حضور الشخصية الطاغي متلازمة مع المكان والزمان، وجميع العناوين التي وضعها الكاتب مرتبطة بمضمون سرديته الحافلة بأحداث عمله لتماشي فنيته وتسير على دربها، وكشفت عدة نقاط مهمة منها أن المحفل الماسوني يسيطر على الكثير من الجوانب في عالمنا، وكذلك التركيز على فراغ إنساننا وإلا كيف تحول بطل الرواية من مقاتل ضد المغتصب إلى مقاتل في صفوفه، خاتماً بالقول: الرواية مليئة بالمعلومات وهي تقدم الكثير من القيم الفكرية وقد كان هم الكاتب من خلال مقاطع الرواية العمل على بث رسائله المتلاحقة التي تبتغي التشويق وتقديم المتعة التي لا يكون الفن جميلاً من دونها.
لوردا فوزي