ثقافةصحيفة البعث

” فردقان..اعتقال الشيخ الرئيس” بين التجني والإنصاف

بعد رواية الكاتب الفرنسي جيلبرت سينويه “ابن سينا والطريق إلى أصفهان” التي يروي فيها تفاصيل حياة الشيخ الرئيس على لسان تلميذه المقرب “الجوزجاني”، واستعراض التقلبات السياسية التي أثرت على استقراره وتفرغه للبحث والعلوم لاسيما في مجال الطب الذي نبغ فيه مبكرا، يطالعنا الكاتب المصري المثير للجدل برواياته وآرائه يوسف زيدان صاحب رواية “عزازيل” الشهيرة، برواية جديدة تحمل عنوان”فردقان.. اعتقال الشيخ الرئيس” التي يتناص فيها مع رواية سينويه إلى حد كبير، كما يتناص مع السيرة التاريخية بواقعيتها، لكنه يعمل فيها على تطعيم الواقع بالمتخيل لزيادة منسوب التشويق والإثارة في السيرة، ويعتمد في السرد على أصوات عدة من شخصيات تاريخية تتناوب على الإحاطة بحياة هذا الرجل الاستثنائي، لكن الصوت الأهم هو لابن سينا نفسه الذي يستنطقه الكاتب بما يريد وفق أفكاره ورؤيته الفكرية والفلسفية،بأسلوب الاسترجاع (فلاش باك) ضمن خطوط متداخلة غير مرتبة ضمن أنساق متتالية زمانيا.

ابن سينا الذي قضى حياته ملاحقا يفر بجسده من مكان إلى آخر، اتقاء مزاجية الحكام، وتقلبات أهوائهم وأمزجتهم، واستفحال الأطماع السلطوية لديهم،ونقمة الحاقدين على عبقريته المبكرة، أنجز أهم المؤلفات الطبية التي سبقت عصره بعقود، وهو نزيل سجن قلعة “فرد قان” الشهيرة في إيران، ينطلق زيدان كمدخل للسيرة من مقولة:”لما غلا ثمني، عدمت المشتري” في تلميح صريح للإهمال والاستخفاف الذي يتعرض له العلماء في مجتمعاتنا،والتقليل من شأن دورهم في الحياة، فقد كان الشيخ الرئيس ملحقا بالسلاطين والأمراء يقربونه منهم عندما تلح الحاجة إليه، ويزدرونه عندما تنتفي الحاجة منه.

تنقسم الرواية إلى سبعة فصول يبدأها بفصل “المزدوج” وهو اسم يطلق على المنصور آمر القلعة الذي يشرف على سجنه بأمر من “سماء الدولة” حاكم همذان،ووزيره القائد “تاج الملك”، ومن سجنه هذا تنسج خيوط الحكاية على نول كاتب متمكن من التفاصيل التاريخية واللغة الموائمة لذلك العصر، والمطلع على جغرافية الأماكن وأزياء سكانها ومأكولاتهم، والأحداث السياسية الهامة التي عصفت بالدولة الإسلامية أواخر أيام الخلافة العباسية الفترة التي شهدت وهن الدولة المتمثل بالفوضى العارمة التي سادت كل الأمصار والأصقاع،والصراعات والأطماع السياسية، التي أزهقت الأرواح البريئة وسفكت الدماء الكثيرة، وأحرقت عصائر فكر ومجهود الكثير من العلماء بسبب أهواء رعناء وأحقاد ثأرية هوجاء.

“المزدوج” رجل يجل العلماء استقبل ابن سينا كضيف، وليس سجينا، فقد أكرم وفاده، وأمن له كل سبل البحث والكتابة والعطارة،وفي هذه الأجواء أنجز أهم مؤلفاته “القانون في الطب”، ومن هذا المكان يأخذنا السرد إلى محطات هامة من حياة هذا العالم الفذ الذي قدم خدمات جليلة للطب،شكلت مرجعا للدارسين عقودا طويلة.

في الفصل الثاني “شيخ الرستاق” نتعرف على علاقة الحسين بن علي ابن سينا بأبي الريحان البيروني الملقب بالأستاذ، وأبي بكر الرازي، ومع أبي عبيد الجوزجاني، ومسكويه، قبل أن ينتقل إلى فصل آخر يفرد له الكاتب حيزا واسعا يصل فيه حدود المبالغة أحيانا بغية رفع نسبة التشويق في السرد، وهو فصل علاقات الشيخ الرئيس النسائية لاسيما مع الجارية روان التي يعنون الفصل الثالث باسمها، وهي الجارية التي أهداها له البويهي لقاء معروفه بعلاج ولده، فهام ابن سينا بها “وراحت روحه تنساق إليها وتميل شيئا فشيئا. فهو يرى في ملامح وجهها البريء الوضاح تماوج الحب والحياء، وتدافع البراءة والرغبة، واضطراب التوق الثلجي حين تلعب به ريح الشتاء القارس…”.

لكن سعادته مع روان لم تدم طويلا، بسبب حركة التمرد التي افتعلها العسكر الأتراك والأكراد ضد حاكم همذان أبي طاهر شمس الدين، وغضبهم من وزيره ابن سينا واقتحامهم منزله واحتجازه وسرقة كل محتوياته بما فيها العبيد والإماء ومن بينهم معشوقته روان التي اقتادوها وباعوها إلى جهة مجهولة، فحزن عليها حزنا شديدا وظل يقتفي أثرها لسنوات عديدة، إلى أن التقى ماهتاب الفتاة الحرة الفاتنة المولعة بالعلوم والمعارف التي قصدت القلعة للقاء ابن سينا والإفادة من علومه.وفي هذا الفصل يعود الكاتب إلى يفاعة ابن سينا وتعلقه بالأرملة سندس التي كانت تكبره بعشرين عاما وأراد الزواج بها لولا رفض والدته بشدة هذه الفكرة، وينتهي الكتاب بفصل “حي بن يقظان” وفيه يسلك زيدان دروب ابن سينا الفلسفية”..وارتباط النفس العاقلة بالقوى والحواس الجسمانية المرافقة، والمعوقة لها عن الترقي في مراتب المعرفة والفهم.وكيفية ضبط هذه القوى، بحيث تستطيع النفس التخلص من تحكم المادة والعروج لاستكمال كمالاتها، جاعلا ذلك على هيئة نصائح سمعها راوي القصة غير المصرح باسمه من الرجل المسمى “حي بن يقظان”.

وتنتهي السيرة برحيل ابن سينا متخفيا في زي الصوفية مع أخيه علي وصاحبه الجوزجاني، في خضم الصراع الذي نشب بين العلاء بن الكاكوية ومحمود الغزنوي على الممالك البويهية، بعد أن أعفى عنه تاج الملك ووعده بوزارة ثالثة لكنه ماطل في ذلك لسنوات، فوصل إلى أصفهان، وهناك انتهى من تبييض مسودات موسوعته الشهيرة “الشفاء” في الفلسفة، وموسوعته الأشهر “القانون” في الطب، وكتب هناك موسوعة “الإنصاف” في الحكمة المشرقية التي نهبها الغزنويون، وأحرقت بعد فتك الغوريون بالغزنويون واجتياح عاصمتهم، وإحراق مكتباتها، وبعدها “مات وحيدا، وخلد للأبد، وخسر في سبيل الخلود أعز أمانيه..”.

رواية مشوقة غنية بالأحداث المتداخلة ضمن أنساق دائرية متقنة البناء، يصعب على القارئ العادي فصل الواقعي التاريخي عن المتخيل، لكن فيها تجنيا واضحا من قبل الكاتب على مكانة الشيخ الرئيس العلمية عندما يركز على مغامرات نسائية قد تكون متخيلة على حساب إنجازات طبية وفلكية وفلسفية زخرت بها حياته وشكلت  موئلا لأجيال من الدارسين فيما بعد.

آصف إبراهيم