ولكن أين مصلحة أوروبا في ما يحدث؟!
تطرح زيارة الوفود الشعبية والبرلمانية الأوروبية إلى سورية، وآخرها الوفد الإيطالي، وما تتضمّن من مواقف متضامنة، أسئلة عدة عن الموقف الأوروبي الرسمي المتعنّت حيال الحرب على دمشق، ويأتي على رأس هذه الأسئلة سؤال عن مصلحة أوروبا في هذه الحرب بداية؟!، ولماذا تستمر في تأجيج أوارها إلى الآن، سواء بالسلاح – وما قدّمته، وتقدّمه، ليس قليلاً – أو بالدبلوماسية – وما فعلته، وتفعله، كان، وما زال، عاراً عليها وعلى قيمها – أو، وهذا الأخطر، بالاقتصاد، حيث ما زالت مصرة على محاصرة الشعب السوري في لقمة عيشه ودوائه وموارد رزقه وحياته بأسرها، لتكون أوروبا بذلك أحد المساهمين الكبار في المأساة السورية، ولكن – وتلك المفارقة الغريبة – دون أن تجني فوائد مجزيّة، بل ربما تكون، بعد الشعب السوري، أحد الخاسرين الكبار منها؟.
والحال فإن عدم صلة معظم الدول الأوروبية بواقع ما جرى في سورية، بداية، لم يكن غريباً، أو مستغرباً، في ظل الموجة التضليلية الطاغية حينها من جهة، وفي ظل كمية الأموال الهائلة التي دفعها المموّل الخليجي للمشاركين في العدوان من جهة أخرى، لكن الأمر المستغرب هو إصرارها على الاستمرار في هذا الإنكار “على الرغم من التغيّرات الكبيرة التي شهدتها سنوات الحرب”، وعلى الرغم من معرفة القاصي والداني، خارج أوروبا وداخلها خصوصاً، أن هذا الاستمرار لا يحقق سوى “مصالح أمريكا ولوبياتها”، بل إنه في الحقيقة والواقع ضد مصلحة أوروبا الاستراتيجية على المديين المتوسط والبعيد.
وهنا تحديداً يُفتح حديث المصالح، وهو الحديث الوحيد الذي يتعامل به، ويفهمه، كهنة السياسة الدولية، الأمر الذي يفترض بنا العودة إلى عالم ما بعد سقوط حلف وارسو حين وجد حلف “الناتو” – وأوروبا شريكاً رئيساً فيه ظاهرياً، وتابع ثانوي مأمور للسيد الأمريكي عملياً – نفسه دون عدو، فاتجه إلى منطقتنا، بأوامر أمريكية، “ليستثمر” فيها معلناً عام 2004 من تركيا “مبادرة اسطنبول للتعاون”، حيث عرض خدماته على دول الخليج، وعلى سبع دول متوسطية أخرى، وبعبارة مباشرة، عرض بندقيته “للإيجار”، وهذا ما فعله حرفياً بعد ذلك، سواء بصورة مباشرة كما في ليبيا، أو غير مباشرة كما في سورية واليمن، وبالطبع كان هناك تنوّع في “المستأجرين”، فمنهم شركات نفط وغاز وسلاح، ومنهم بعض ساسته من ذوي المصالح الشخصية الضيّقة، ومنهم بعض أصحاب البترودولار لتصفية أحقادهم القديمة القاتلة.
بيد أن ما حدث بعد ذلك كان كارثياً على أوروبا وحلمها الاتحادي الذي يحتاج إلى “متوسط” هادئ وآمن ومستقر، فـ”الاستثمار في المستقبل”، بحسب وصف آلان جوبيه للعدوان على ليبيا، ودعم “مقاتلي الحرية”، كما وصفوا كل من حمل السلاح في سورية، أوصل إلى شوارعها لهيب الإرهاب الذي ساهمت في تأجيجه، خاصة وأن “الجو” جاهز لذلك بالوهابية التي فتحت لها أبواب مساجدها طمعاً بالبترودولار، وبالتالي ارتفعت حدة التطرّف والانعزالية كتوءمين لا يفترقان، والنتيجة المحتومة لذلك تسنّم الشعبويين وساسة الصدفة سدّة السلطة بوعود زائفة ورجراجة، دون أن يحملوا حلولاً جدية لمشاكل بلادهم، فكان الاهتزاز الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أمراً نافلاً، سواء داخل الدول أو على مستوى الاتحاد ذاته – بريكست البريطاني مثالاً – وبتضافر ذلك مع عوامل داخلية عدة، أصبح “الحلم الأوروبي” برمته على شفير هاوية ليس لها قرار.
بالمحصلة لم يكن الاتحاد الأوروبي، ودوله بالتبعية، في ما حدث سوى تابع أعمى لـ”اليانكي”، تابع تجاهل مصالحه الاستراتيجية الحقيقية، وارتضى بالفتات الآني الذي يتركه “المحتل الأمريكي” لقراره، وحين تنتهي الحرب، وهي ستنتهي يوماً ما، لن يكون جالساً على مقاعد الرابحين الرئيسيين، وهو ما سيجعله، لاحقاً، “فُتاتاً” حقيقياً في عالم التعدّدية القطبية القادم، ولأن للتاريخ سيرورته ومآسيه القاسية ومهازله الخاصة، والواقع الأوروبي الحالي لا يقدّم آمالاً واضحة بإمكانية تفاديها، فيبدو أن “الاتحاد” سيدفع، في المرحلة القادمة، ثمن قصر نظر ساسة الصدفة الذين جعلوه، منذ زمن، “عوامة على وشك الغرق”، كما وصفه يوماً المدير العام الأسبق لصندوق النقد الدولي دومينيك ستروس كان.
أحمد حسن