من يستطيع العد إلى العشرة؟
د. عبد اللطيف عمران
يتطلب الواقع العربي الراهن كثيراً من المراجعة وإعادة القراءة والتروي في إطلاق الأحكام، ولاسيما أن المجتمع العربي يعيش نكوصاً يرتد خلاله الى الوراء في تراجع مستويات الوعي والانتماء والصمود في وجه التحالف الامبريالي الرجعي، وهو واقع كثُر فيه الارتهان والارتزاق وشراء الذمم بالبترودولار على عدة مستويات.
وعلى مستوى الأزمة في سورية يخطئ من يظن أن المسألة مسألة إصلاح وديمقراطية وتداول للسلطة، فالمسألة أكبر من هذا وأبعد وأعمق، وهي تقترن بطول أمد الصراع مع سورية، وبالاجتهاد المعادي منذ زمن بعيد لتحويله الى صراع عليها وفيها. وهذا بالتأكيد لا يغيب عن إدراك بعض النخب التي تحولت إلى مرتزقة.
فمن ينكر الرغبة الامبريالية الأمريكية المعاصرة في السيطرة على العالم منذ التسعينيات؟ واقتران هذه الرغبة بطروحات النظام العالمي الجديد، والشرق الأوسط الجديد، والقطبية الأحادية.. ومن ينكر أن وضع القيادة السياسية في سورية لم يتكيّف مع هذه الطروحات؟ بل استمر صامداً في مقاومتها، ووقف المجتمع والدولة والأحزاب الوطنية التقدمية موقفاً واحداً في التصدي لسياسات العولمة الامبريالية والصهيونية، فتقدّم وطنياً طرح دعم المقاومة نهجاً وثقافة، مااقتضى تقدّم الطرح الامبريالي الرجعي بضرورة تغيير «سلوك النظام». ومع فشل هذا الطرح تم الانتقال الى طرح «تغيير النظام» واستهداف البعث أولاً والمادة الثامنة من الدستور السابق.
فالمواجهة بين سورية والمجتمع الدولي ليست طارئة، بل مقترنة بسياسات ظالمة للقضايا الوطنية وللحقوق العربية، وبازدواجية المعايير. وهذه المواجهة تركة تاريخية مشبعة بمبادئ وثوابت سياسية واجتماعية واقتصادية تتمثل في صمود سورية ومقاومتها تحويل التناقض الرئيسي مع الكيان الصهيوني الى تناقض ثانوي مستبدل بتناقضات عربية عربية، ومذهبية وعرقية.. تتحطم خلالها الوحدة الوطنية والمجتمعية، والوفاق الداخلي والحوار الوطني، وتغيب معها حتى الشعارات المعادية للصهيونية والاستعمار والرجعية، لتحلَّ مكانها شعارات ومناهج عمل تستدعي هذا الحضور المعادي وأدواته المرتزقة من خونة الأمة والأوطان، فتظهر اسرائيل معهم حملاً وديعاً يستجديها هؤلاء خفية وجهاراً.
وفي هذا السياق يتم تركيز المجتمع الدولي على الأوضاع في سورية بشكل مكثّف، بسبب دور سورية التاريخي والفاعل في صياغة المنظومة الإقليمية والدولية تجاه الأوضاع في المنطقة، وقدرتها المستمرة جيوسياسياً واستراتيجياً على تحطيم عدد من المشاريع المضادة للمصالح الوطنية والعربية، مايجعل الأزمة الراهنة فيها نواة لوضع إقليمي ودولي جديد، يتحقق خلاله اصطفاف مغاير ومفاجئ للأطراف المتسرعة في اللعبة، وآية ذلك أنه في 30 آذار الماضي عُقدت ثلاث قمم محورها الوضع في سورية، وهي القمة العربية في بغداد، وقمة البريكس في نيودلهي، والقمة الثنائية الإيرانية التركية في طهران. وفي مطلق الأحوال يبقى القرار الوطني هو الأهم لاستناده على تماسك الشعب والجيش ودولة المؤسسات.
ولذلك ينهض اليوم تساؤل إقليمي ودولي مهم حول ضرورة البحث في العمل بعد نجاح سورية في تجاوز الأزمة، وفي مآل الاصطفافات والارتهانات المريضة التي بدأت تعاني منها بشكل بارز دول مثل تركيا وقطر والسعودية التي تعمل منذ زمن وفق توجه امبريالي على إطالة أمد الصراع داخل دول المنطقة، والإفادة منه في تفكيك البنى المجتمعية والفكرية والروحية العربية والإسلامية، وإضعاف الدولة والمجتمع، وهي إطالة ستكشف تورطاً رسمياً مخزياً بدأ يفرزه ويندّد به وعي شعبي عربي ودولي متزايد.
وسيعزز الوعي الوطني والعربي قريباً موقفاً واعياً ومناهضاً لعدد من الاصطفافات المريضة المتمثلَّة بقادة تركيا والسعودية وقطر والمرزوقي الأخرق المأفون، فيسارعون – مثلاً – إلى اصطفاف مريب حول أزمة الهاشمي في الحكومة العراقية، ويزور الأحد الأسبق مستشار الأمن القومي التركي قرى عكار في لبنان…! وهم يراهنون في كل شيء على سراب، وعلى علاقة بما يسمى «معارضة خارجية» هي بمثابة بنية نخبوية خارجية فوقية لا صلة لها بالبنى الوطنية التحتية المنتجة في المجتمع، بل بالمراكز الامبريالية الصهيونية الرجعية.
وهؤلاء لن يستطيعوا العد إلى العشرة، فهم مستعجلون، لأن طول الأزمة سيساعد على تشكيل وعي مغاير يفضحهم وينقلها إلى دولهم ومجتمعاتهم، مع انسحاب أمريكي اسرائيلي مخاتل من ممارسة دور القيادة فيها.