مؤتمر البعث.. والحاجة إلى خارطة طريق
د. عبد اللطيف عمران
انطلق حزب البعث العربي الاشتراكي في أدبياته وتاريخه النضالي من نظرية متكاملة وليست كاملة، فحين أقرّت قيادته القومية في المؤتمر القومي السادس 1963 منطلقاته الفكرية خاضت سجالاً ومراجعة موضوعية حتى اتفقت على عنوان «بعض المنطلقات النظرية» والتي ورد في مقدمتها التي أقرّها فيما بعد المؤتمر القومي السابع: «إن النظرية النضالية لايمكن أن تخلق بين يوم وليلة، وإنما تتبلور في الأذهان وتتركز نتيجة تحولات تاريخية تواجه النضال الجماهيري، ونتيجة لذلك تأخذ تلك النظرية في النمو.. لأن الواقع الاجتماعي واقع حي، وفي تغيّر مستمر، والقانون العلمي لايعطي نفس النتائج عندما تتغير الظروف المصاحبة للتجربة».
واليوم تمرّ الأمة بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة تتطلب من الحزب – وكعادته في التاريخ العربي المعاصر – أن يسجل موقفاً وحضوراً فاعلاً، ليس تجاه الواقع الراهن في سورية وحدها، لأن البعث حزب الحاضر والتراث والمستقبل العربي، والذين يستهدفونه اليوم، يستهدفون هذا كله، إضافة الى الهوية والانتماء والوعي. فنحن جميعاً نعيش اليوم واقع مابعد «اجتثاث البعث»، واقع تفوز فيه بالانتخابات أحزاب دينية في المنطقة يقترن باحتمال انقلاب هذه الأحزاب على الديمقراطية، لانطلاقها في كثير من الأحيان من إدماج “الديمقراطية” وأغلب المؤسسات بتصورهم الأحادي للدين.
وفي ظل الظروف الصعبة التي تعيشها سورية، والعرب جميعاً، يجري التحضير لانعقاد المؤتمر القطري الحادي عشر للحزب خلال شهر، مع المضي بتنفيذ خطوات مشروع الإصلاح الوطني الديمقراطي، ومع أوضاع محلية وعربية ودولية بالغة الحساسية والخطورة، تتميز بحضور غربي صارخ في التعامل مع القضايا الوطنية والعربية، حضور يقترن بالتدخل الأطلسي المباشر، وبالوصاية، وبالعمالة والخيانة والارتهان. مايرتّب على البعث تبعات جساماً في ظل تقدم العصبيات، وتأخر الحضور القومي واليساري والتحرري على الساحة العربية.
ولعل المادة الثامنة من الدستور الدائم للبلاد من أهم القضايا التي يتطلّع الشعب الى مصيرها في مشروع الإصلاح، ومع انعقاد المؤتمر القطري القادم، حيث يظن البعض خطأ أن هذه المادة أساس نظرية الحزب وتاريخه النضالي، وحضوره ودوره، لأنها تتصل بعلاقة الحزب بالحكم. لكن الواقع غير ذلك، فالقضية الأساسية في الحزب هي الهوية والالتزام بالأهداف، وليست السلطة التي تلحق مفرزاتها الضرر في أغلب الأحيان بأي حركة تحرر أو نظرية نضالية.
فقد أعربت مؤخراً قيادات الحزب وكوادره في اجتماع لها عن أن مايهمّ في هذه المادة هو روحها الوطنية والعروبية، وليس الصلة بالسلطة. فللبعث موقف تضحية تاريخي في هذه المسألة لصالح قيام الوحدة بين سورية ومصر يمكن أن يقاس عليه تلبية لتطلعات الشعب ومصالح الوطن.
وفي هذا المجال سجلت قيادة الحزب تحولاً مهماً مع القائد التاريخي حافظ الأسد حين إقرار المادة الثامنة من الدستور، والتي بدأت تلوح في أفق النص الدستوري السوري منذ الدستور المؤقت عام 1964، حتى تمت صياغتها بشكل واضح في المادة السابعة من الدستور المؤقت في 1/5/1969 بـ«الحزب القائد في المجتمع والدولة هو حزب البعث العربي الاشتراكي».
فجاء نص المادة الثامنة في الدستور الدائم عام 1973 ليتجاوز تركيز حركة 23 شباط على الحزب الواحد، ومناخ السبعينيات الذي يشجع على التمسك بدور الحزب الواحد في أوروبا الشرقية وغيرها. إضافة الى ما نصت عليه هذه المادة من دور للتعددية الحزبية، وللتحالف مع الأحزاب الوطنية التقدمية لإقرارها بأهدافها الوطنية، والقومية أيضاً.
وبعد المؤتمر القطري التاسع للحزب عام 2000 تم إنجاز تحولات بنيوية اجتماعية واقتصادية وسياسية عديدة صدرت فيها القيادة السياسية عن مرونة تطلبتها المستجدات المحلية والإقليمية والدولية، ما أدى الى تطورات إيجابية يطول الحديث عنها.
إن البعث قادر اليوم على رسم خارطة طريق تقرّ تحولات فكرية وسياسية وتنظيمية واعدة، وهو قادر بانفتاحه، وبتضحياته المستمرة أن يبقى الأمل في وقت سنشهد فيه مرحلة جديدة من النضال العربي ضد إخضاع المنطقة للمصالح الاستراتيجية الغربية، وقت لم يسفر فيه المشهد الاحتجاجي، والانتخابي العربي عن برامج وطنية وقومية تنطلق من أولوية المسائل الاقتصادية والاجتماعية النهضوية، ومن مركزية القضية الفلسطينية، قدر الانطلاق من الوصول أولاً وآخراً الى السلطة. لذلك يرى قادة الغرب “إن التحولات الراهنة تصب في مصالح الشعوب العربية والغرب” فمتى تلاقت هذه المصالح ؟!