..إيقاع وشموع!
حسن حميد
أسمع همساً يدور في أوساط المثقفين، حيث هم يجتمعون، في المقاهي والأندية واللقاءات الثقافية، وبعضه يصل إلى حدِّ الرطانة بصوت عالٍ، وفحواه، ما فائدة وجود أدباء كبار جفَّ حبرهم، وقلّت أدوارهم في المشهد الثقافي، فهم لا يشاركون في الأمسيات الأدبية، ولا في الندوات، ولا في المحاضرات، ولا يكتبون في الصحافة الأدبية، ولا يطلون على الناس من منابر التلفزة أو الإذاعة أو التواصل الاجتماعي، وهم لا يلتقون أصحاب المواهب الأدبية الطالعة إلا في أوقات نادرة إن لم تكن معدومة نهائياً.
وهذا الهمس ليس سوى رطانة شيطانية غايته موزّعة على غايات، ومنها أن أصحاب الهمس، ومعظمهم من الأجيال الأدبية الجديدة، لا يقدرون هؤلاء الأدباء الكبار الذين تقدمت بهم السن لأنهم لم يعرفوا حقيقة ما في تجاربهم الأدبية من عبر ودروس، وما في مؤلفاتهم من إبداع، وما عانوه، في أيامهم الماضية، من مكابدات ومساهرات حتى خرجت نصوصهم على الناس، ولم يعرفوا أن هؤلاء الكتّــاب لم يكتبوا ويؤلفوا فحسب، وإنما شقّوا الدروب التي تمشي فيها الأجيال الأدبية الجديدة يوم ما كانت الدروب مبصرة، ويوم ما كان الصحف والمجلات حاضرة، ويوم ما كان للأذرع الوهمية التي تحتضن النصوص الوهمية من وجود، آنذاك كان الإبداع افتكاكاً من الظروف، والمعاناة، وقلة الحيلة، وعدم الخبرة، وندرة الاطلاع على تجارب الآخرين، وغياب الترجمة.
واليوم، لا تعني هذه الرطانة الشيطانية الداعية إلى الابتعاد عن الأدباء الكبار من جهة، وعدم تقديرهم من جهة أخرى، سوى نسف معاني الأبوة، ومحو الدروب التي افترعوها، وتوطيد أركان ثقافة القطيعة، والمناداة بقتل الآباء! وحين يسأل أصحاب التجارب الجديدة لماذا يفعلون مثل هذا الأمر؟ يقولون لأننا ننشد الحداثة، وعدم تقفي الدروب التي محاها المشي الطويل/الثقيل، والخروج على الطاعة العمياء (لأبوية) ما جاءت إلا بإبداع تناسب والأزمنة الماضية من حيث الجدة، والحضور، والمكانة، ونحن اليوم، وقد تطورت الدنيا، لا نرضى بتلك الجدة، ولا بذلك الحضور، ولا بتلك المكانة لأن أرواحنا الإبداعية تطلب أكثر، وتهفو إلى ما هو أهم وأغنى!
والحق أن هذا الكلام جميل، وإن كان يضرب نسيج نظرية التيارات الأدبية التي تحتاج دائماً للرفد المتواصل كي تتجلى وتبين مقاصدها وغاياتها، ولكنه ليس جميلاً بالمطلق حين ينظر المرء في تجارب الأجيال الطالعة، وأنا لا أعمم وإنما أعني الكثرة أسماءً وتجارب، يجد ما هو مخيف حقاً من كثرة العيوب والثغرات في النصوص الجديدة، ومن شيوع ثقافة العماء والإبهام والاستغلاق، وقصدية قطع كل معنى كي لا يصير النص صاحب هدف وغاية، والرضا بالرطانة في الكتابة والقول حتى ليحسب المرء أن النص المكتوب باللغة العربية، والمفكّر به بالعقل العربي، والذاهب إلى جمهور قراء العربية.. هو نص مترجم فيه الكثير من الالتواء والاعوجاج، والطيران بلا أجنحة، وفيه الكثير من أغلاط اللغة والبيان! وهنا يضرب القارئ كفاً بكف، ويهمهم متحسراً: ويلتاه! أي حداثة يعنون، وأي دروب يقصدون، وأي أحلام ينشدون!
أعرف، بأن من حق الأجيال الأدبية الجديدة أن تتعثر وهي لا تدري، وأن تغلط في اللغة كتابة ونطقاً وهي لا تدري، وأن تتوهم بأنها تكتب نصوصاً أدبية وهي لا تعرف شيئاً عن علم النص، ولكن من حقنا عليها أن تتحلى بألف باء الأدب، أي ألا تتقوّل، ولا تظلم، ولا تدعي، وأن تصبر وتتعلم الصبر على النصوص كي تولد ولادات طبيعية، وأن تتعلم الصبر لتعرف متى تنطق، وماذا تقول!
إن الأدباء الكبار في حياتنا ضرورة، فهم هواء الأدب والإبداع والثقافة، وليسوا حراساً لقيم الأدب والإبداع والثقافة فحسب، بل هم أهل الحضور الجوهري ليصير الأدب حياةً؛ حضورهم يعني وجود المهابة الأدبية كيلا تصير الكتابة إيقاد شموع.. نور شحيح وإسالة لا طائل من ورائها!
Hasanhamid55@yahoo.com