اعتدال رافع.. حاربت على كلّ الجبهات دون سلاح
بدا جلياً من خلال الندوة التي عقدتها مديرية الثقافة في ثقافي أبي رمانة مؤخراً بمناسبة الذكرى السنوية لرحيلها وبمشاركة د. ثائر زين الدين – مدير الندوة- والأديبة نهلة السوسو ود. ماجدة حمود أن الراحلة اعتدال رافع كانت شخصية إشكالية على الصعيد الإنساني، فحتى من عرفها عن قرب لا يمكنه الادعاء بأنه كان قادراً على فهمها ولم يخلص إلى نتيجة حتمية لهذه الشخصية التي كانت غريبة الأطوار لمن لا يعرفها، من هنا كان من الصعب على د. حمود والأديبة السوسو تفسير ذلك المزاج الحاد الذي كانت تتمتع به وحالة القلق والوحدة التي كانت ترغب بشدة في عيشها وإن كانت في أحاديثها الخاصة تشير إلى قسوة عانت منها في طفولتها وزواج مبكر.
بلا تزييف
اتفق الجميع على فرادة شخصيتها وابتعادها عن الأضواء والإعلام وأنها كانت تكتب يحثاً عن خلاص لها وليس من اجل الشهرة، من هنا تحدثت الأديبة نهلة السوسو التي تعرَّفت عليها بالمصادفة في مقهى “أبو شفيق” -ذلك المقهى الذي كان يرتادُه أيضاً الراحل محمد الماغوط- على رافع الإنسانة كما عرفتها عن قُرب دون تأنُّق مبينة أنها كانت نمطا فريدا من نوعه في علاقتها بنفسها ومع الآخرين ولطالما ذَرَفَت الدموع أمامها وهي ترى ما يحدُث في سورية أثناء الحرب والذي كان يذكرها دائماً بالحرب الأهلية في لبنان التي كَتَبَت عنها روايتُها “يوم هربت زينب” مؤكدة أن من يعرُفها ويقرأ لها سيجد فارقا كبيرا بين شخصها وقلمها فهي كإنسانة كانت بمزاجٍ معيّن يختلف عن مزاجُها في الكتابة، حيث كانت شخصا غير مستقر تعيش القلق والحزن وعدم الرّضا، وكانت تتحوّل مع أصدقائها لطفل طليق يحزن ويَفْرَح في الوقت ذاته، وتذكر السوسو أنها عندما قرأت مجموعتها القصصية الأولى “الصفر” كتبت مقالة عنها في صفيحة الثورة عن امرأة تحاول أن تصرخ ولا من يجيب وتحارب على كلّ الجبهات ولكن دون سلاح، مؤكدة أن رافع كانت شخصية ليس لها شبيه، صادقة لا تتصنع ولا تجامل وكانَت تكتُب بلا تزييف. كما كانَت أيضاً تلك الحسناء السورية التي ظَهَرَت صورتها على غلاف إحدى أهم المجلات الفنية وهي تطوق عنق الراحل عبد الحليم حافظ بسلسالها الذهبي في إحدى حفلاته.
الوحشة والمرض
أما د. ماجدة حمود فقد تحدثت مطولاً عن مقاومة رافع لمرض السرطان فرغم بشاعة الظروف التي حاصرت حياتها إلا أنها كانَت تبحث دوماً عن عالم مأهول بالاخضرار لأنها كانت تؤمن أن موتها المعنوي أفدح من موتها الجسدي، فكانت مثل أي مبدع أصيل واجه قهر الحياة بالكتابة كسعد الله ونوس الذي كَتَبَ أثناء مرضه عدداً كبيراً من مسرحياته، مبينة حمود أن رافع عانَت الوحشة والمرض والغدر والظمأ للحب فلم تكن معاناتها في هذه الحياة بسيطة ولهذا وصفت ألمها بالعظيم لكنها لم تستسلم إليه ولذلك وهي في أشد لحظات مرضها وحين اقتربَ الموتُ منها طلبت منه أن يُفسح للأمر برهة حضور: “أيها الموت.. أمهلني لحظة، ساعة، عمراً.. ثمة وردة لم أشمّها بعد.. أيها الموت لو تنساني، ثمّة نجمة لم ألمسها بعد وحكاية أريد أن أُنهيها.. يا صديقي ورفيقي الأبدي هناكَ كتاب لم أقرأهُ بعد” وهكذا وبفضل الإبداع استطاعت رافع أن تحفر عميقاً لتخرج ألمها من كهفٍ يغمر بظلمته جسدها فكانت توثِّق لروحها وهي تتأرجح بين لحظة قوة ولحظة ضعف، لتبدو لغة التحدي سمة أساسية لديها واجَهَت بها كل من يريد وأدها في الحياة وفي الإبداع، وكانت كلّما اشتدّت عليها ضربات معاول الزمن والمجتمع تبدأ بتجميع روحها المبعثرة في قصّة نجدُ فيها تطهيراً من كل غبار الحقد والبشاعة لهذا بدا التوقف عن الكتابة لديها موتاً: “أن أكفّ عن الكتابة معنى ذلك أنك تمنعني من الضوء والتنفّس وحقي في الحلم فهذا الكون على اتّساع المزعوم ضيّق على رِئَتِي”. من هنا تشير حمود إلى أن رافع رَفَضَتْ أن تعيش حياة تقليديّة ولم تكن من الأشخاص الذين يكرهون ذواتهم أو يرفضون جنسهم: “يا إلهي.. لكَ الحمد أنك خلقتني أُنثى في هذا الزمن ولا ضير إذا خضتُ كل يوم معركة ضارية أبصق فيها نتفاً من قلبي” فرغم كل الآلام كانت راضية بتفرّدها وانتمائها إلى الأنوثة التي تعرفها رافع بأنها “القدرة المميتة على الحب أيْ العطاء دونَ مقابل: “تعلَّموا الحب حتى تتعملقوا به” وتختتم حمود كلامها موضحة أن رافع كانت كاتبة ساخرة وقلة هن الكاتبات الساخرات لأن السخرية موهبة تحتاج إلى روح مرحة وقدرة على تحدي اللغة وبرحيلها فقدنا رائدة بالقصة القصيرة كان لها لغتها المتميزة وهي التي كانت مصرة دوماً على تقديم لغة تدهش القارئ وخاصة في الشعر، يدفعها الى ذلك رغبتها الدائمة بالتجديد، وأسفت حمود أن النقد لم ينصفها.
سخرية طافحة بالمرارة
وأوضح د. ثائر زين الدين أن رافع وُلِدَت في لبنان وعاشت في دمشق التي كَتَبَت وقَدًّمت جلّ ثمارها فيها، وقد كتبت القصة القصيرة وقصيدة النثر والخاطرة وكانت إعلامية متميزة في سورية ولبنان وأن الهيئة العامة السورية للكتاب أصدرت لها قَبْل وفاتها الأعمال الكاملة، مبيناً أنه كان في بعض نصوصها نكهة بطعم السخرية لكنها السخرية الطافحة بالمرارة عكس غيرها من الكتاب الذين كانوا يوجهون النقد عبر السخرية والتهكم على بعض الظواهر الاجتماعية وقد تخلصت منها بعد مرضها ومحاربتها للسرطان حيث خيم الحزن على نصوصها وكان مفردة لا احد تتكرر كثيراً في نصوصها إلى جانب الشعور بالوحدة الذي اشتد عليها وجعلها تقدم نصوصا لا تذهب مع الزمن.
أمينة عباس